×

أعطه البخشيش... ليعيش

التصنيف: إقتصاد

2009-09-26  05:46 ص  1417

 

البقشيش كلمة فارسية انتقلت إلى اللغة التركية (باخسيس)، وتداولها العرب على سبيل التقليد أيام الحكم العثماني. ولأن الأتراك كانوا يعتنون بالأسواق، وينفقون على نظافتها، فرضوا رسماً على دخولها، فكان أصل الكلمة «بخشيش» ومعناها: «الذي يدفع يدخل السوق». ثم تغيّر مفهوم البخشيش فصار نوعاً من إكرامية تدخل في شكليات الوجاهة الاجتماعية، بالتوازي مع «حلّها» لمشكلة تدنّي الأجور

رضوان مرتضى
وصلتُ إلى غرفتي في الفندق. رافقني أحد العاملين لمساعدتي في إيصال حقيبتي. شكرته، لكنه بقي واقفاً، كأنما ينتظر مني جواباً. لكنه لم يسألني حتى أجيبه! شكرته من جديد. عندها لمّح إلى أنه بانتظار البخشيش. سألته إن كان ضرورياً؟ فأجابني بكل وضوح: نظاماً لا.. لكن ذوقاً نعم. اعتذرت منه «لسهوي» ، ونقدته 10 آلاف ليرة، فشكرني ثم غادر. «نسي بيل غيتس (صاحب شركة ميكروسوفت) أن يترك بخشيشاً ـــــ ولو دولاراً واحداً ـــــ للعاملين في الفندق الذي قضى فيه ليلته، خلال زيارة له إلى القاهرة، رغم أنه نزل في الجناح الرئاسي للفندق حيث يبلغ سعر الليلة الواحدة فيه 3750 دولاراً». حادثة استدعت النشر في جريدة دنيا الوطن الإلكترونية، وكثيرة هي الأخبار المماثلة، مثلاً: إن شخصاً دفع أكبر بقشيش فى العالم، أي عشرة آلاف دولار، بعد تناول وجبة غداء حسابها 26 دولاراً. لم تصدق النادلة معتقدة أن هناك خطأً ما، لكنّ الرجل قال لها وهو يوقّع الشيك: «أعتقد أن هذا المبلغ سيساعدك في شراء بعض الأشياء اللطيفة».
بالطبع، ليس هناك من عامل لا يحلم ببقشيش مماثل، لكن فرصة مصادفة شخص مثل الزبون أعلاه ربما أقل من فرصة ربح اللوتو.
ولأن الجميع ينتظر البقشيش، تشعر أن هذا الأخير يلاحقنا كيفما توجّهنا. فإن أردت دخول مطعم، عليك أن تحسب حساب النادل قبل فاتورة حسابك. كذلك هي الحال مع عامل الفندق، وبالطبع دون أن تُغفل موظف الموقف الساهر على سلامة سيارتك، يضاف إليهم إكرامية خدمات التوصيل التي يقال إنها مجانية، لكنك تدفعها تعاطفاً مع عامل «الديليفري» الذي تعلم أن اعتماده الأساس على «البرّاني». لكن في موازاة الانتشار الكثيف لهذه الثقافة، تجد بعض المحال تحظر على موظفيها قبول البخشيش تحت طائلة حسم المبلغ من الراتب، وصولاً إلى الطرد النهائي.
هناك من يعتمد على «البخشيش» فقط، لأن الشركة لا تدفع له راتباً
«نرجو من الزبائن الكرام عدم دفع الإكرامية للموظفين»، تقول اللافتة المعلّقة على أكثر من حائط في محال شهاب للإلكترونيات في منطقة البربير، مثيرة حفيظة الموظفين وعدد من الزبائن الذين يرون أنه لا يحق لصاحب المتجر فرض قرار كهذا، لأن أساس تسمية «الإكرامية» جاء للتعبير عن الشكر والامتنان. «تحمّلني أحد الموظفين كثيراً»، يقول علي (زبون)، ويضيف «لم يُبد تذمّراً رغم أني قضيت في المتجر أكثر من ساعة»، مشيراً إلى أنه بعدما اختار ما يريد، وضع في يد الموظف المذكور مبلغاً من المال، إلا أن الأخير رفضه خوفاً من المدير. «استأذنت المدير ليسمح للموظف بقبول المال»، يقول علي، ويضيف «لكنه رفض، فلم أشتر شيئاً وخرجت».
حنق الزبائن لم يكن أقل من الموظفين الذين خسروا مصدر دخل إضافياً «كان يخفف عن كاهلنا بعضاً من عبء الغلاء المعيشي»، يقول أحمد (اسم مستعار)، رافضاً الكشف عن اسمه خوفاً من «تجنّي» صاحب العمل، الذي «يكفي أنه يمنع عنّا جزءاً من رزقنا بقراره الجائر». في المقابل، «إنهم يقبضون راتبهم ليخدموا الزبون»، يقول مدير المتجر الذي يرفض اعتبار قراره جائراً، ويضيف «البخشيش يُفسد الموظف ويدفعه إلى التمييز بين زبون وآخر»، مشيراً إلى أن ذلك يؤدي إلى عرقلة العمل نتيجة الرغبة في الإكرامية، «فلماذا لا أقطع الطريق عليهم من البداية»، يقول مختتماً حديثه.
من جهة أخرى، هناك بعض المطاعم التي تعتمد «صندوق الإكراميات» الذي ينتشر في المطاعم والفنادق الفخمة، حيث يُجمع في هذه الصناديق ما يدفعه الزبائن من «بخشيش» طيلة فترة أسبوع أو شهر، تمهيداً لاقتسامه بين العاملين.
يُذكر هنا أن عدة قضايا رفعت أمام القضاء الأميركي اتّهم فيها عمال عشرات المطاعم مديريهم بالاستيلاء على إكرامياتهم، والتحايل عليهم في أجورهم. وفي حالة واحدة، وافقت محكمة في نيويورك على تسوية مالية على شكل تعويضات للعمال، بعدما ثبت صدق ادّعاءاتهم.
وهناك أعمال يعتمد فيها مؤدّوها فقط على «البخشيش»، لأن الشركة التي توظّفهم لا تدفع لهم راتباً كاملاً، باعتبار أن ما يدفعه الزبون يعوّض عن الفارق. وقد يذهب أصحاب العمل في أحيان كثيرة أبعد من ذلك، إذ يأخذون بدلاً مالياً يومياً من العمّال (الحمّالين في التعاونيات) للسماح لهم بالعمل.
إذاً، البخشيش مفهوماً، لا يزال متباين التعريف في مجتمعنا. فهناك من يؤيّده باعتباره وسيلة لإظهار الرضى عن الخدمة المقدّمة، وهناك من يرى أنه نوع من «البريستيج» أو شكل من أشكال الوجاهة. وفي مقابل هؤلاء تجد من يرفضه كمبدأ، باعتباره «رشوة مودرن» أو وسيلة للابتزاز، لأنه عادة ما يتلازم مع أداء الخدمة. وبناءً عليه، تتدرج التسميات المتنوّعة المُعبّرة ضمناً عن تبنّي وقبول أو رفض هذه الثقافة. فتكون تارة الإكرامية أو الهدية أو الهبة، وتارة أخرى الرشوة أو العمولة.
وهناك من يقول إن فكرة البخشيش بدأت في الولايات المتحدة الأميركية، بدليل أن الاسم المتداول لهذا السلوك في الإنكليزية (تيبس) هو اختصار للعبارة الإنكليزيةTo Insure Prompt Service (TIPS) وترجمتها لضمان خدمة فورية، ما يعني إعطاء البقشيش عند الوصول إلى المطعم، لا بعد تناول الطعام، ضماناً لخدمة سريعة.
إلا أن انتشار ثقافة البخشيش في معظم المجتمعات، متقدمة كانت أو متخلّفة، لا يعني عدم وجود دول ترفضه. فهو مثلاً ممنوع في بلدان مثل الأرجنتين وفيتنام، أما في اليابان والصين فيعدّ إهانة. لكنه لا يزال في لبنان، على الرغم من النقاش الدائر حوله، مصدر رزق رئيسي للكثيرين في العديد من الوظائف والمهن، ولو أن الفساد المستشري أخيراً في لبنان أدخله في مفهومه «الواسع» إلى الدوائر حتى الرسمية. من هنا كان الشعار اللبناني «أعطه البخشيش ليعيش

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

تابعنا