×

أسواق بيروت" حداثة تبقي القديم على روحه.. واسمه

التصنيف: إقتصاد

2009-10-09  11:31 ص  3573

 

 

عمر حرقوص
تنوع واختلاف بين بعض من القديم، وبين حداثة تسمح بعيش الحاضر والمستقبل، هكذا يمكن وصف "أسواق بيروت" التي تفتتح هذه الأيام. الأسواق التي لها طابعها الخاص والمميز، ليست إلا نموذجاً عن "كوسموبوليتية" بيروت وحضارتها الممتدة منذ آلاف السنين التي كما كانت دائماً تحمل طابعاً جديداً، وتثبت في الوقت نفسه هويتها العربية المشرقية.
وسط بيروت بدأ يشهد من هذا العام تطوراً جديداً ولافتاً، ففي نهاية شارع ويغان وعلى مدخل باب ادريس، يظهر موقع مسجد ابن عراق في ساحة هي من ضمن "أسواق بيروت". في هذه الساحة يجتمع تراث المدينة إلى جانب العمارة الحديثة المتوالفة مع المحيط.
قبل أيام افتتحت في وسط بيروت أسواق ً تجارية تحمل في بعض منها أسماء أسواق بيروت القديمة، فعلى المدخل الجنوبي لبيروت القديمة وتحديداً من جهة باب ادريس، انتهى بناء الأسواق في شكلها الحديث، مبنى مكتبة انطوان القديم يطل على السوق الجديدة مذكراً بماض لا يتشابه والسوق الحالية، لكنه يحمل فلسفته الخاصة في بناء الأسواق الحديثة.
قبل العام 1975 تاريخ بدء الحرب الأهلية اللبنانية، كانت أسواق بيروت التجارية، مركز بيروت ومقصد اللبنانيين من كل المناطق. هذه الاسواق كانت صلة الوصل بين التاجر وبين المستهلك، وبين الصحافي والمؤسسة الاعلامية، وكذلك هي صلة الوصل بين اللبنانيين بفئاتهم الاجتماعية والدينية، حيث كانت الأحياء القديمة والجديدة صورة عن تنوعهم بكل فئاتهم ما سمح لهذا الوسط أن يكون نقطة اللقاء اليومي للعبور إلى كل المناطق والناس من دون حواجز.
الأسواق القديمة لم تبن في يوم واحد في التاريخ، فبيروت التي كانت صغيرة جداً في أوائل القرن الثامن عشر كبرت في القرن التاسع عشر لتصير أكبر من قرية وأصغر من مدينة نسبة إلى نموذج المدينة لدينا من حيث حجم البناء وعدد السكان. في بداية القرن العشرين، تحوّلت بيروت إلى مدينة بشكل فعلي وصارت مقصداً لأبناء المناطق البعيدة بسبب وجود مرفأ بحري تقصده السفن من العالم وخصوصاً الذاهبة بالراحلين إلى فلسطين ومصر، وكذلك بمن سمعوا بأميركا فرحلوا إلى بلاد تنبش فيها التراب فينبت ذهباً، من البرازيل إلى بلاد العم سام.
إذاً ساهم توسع المرفأ البيروتي وحاجات التجار لايصال البضائع إلى الداخل وافتتاح قناة السويس في تضخم حجم المدينة، وصارت قرى مثل المصيطبة والحمرا والأشرفية ورأس النبع جزءاً من المدينة، أي ان المكان أخذ الحيز الأفقي في توسعه وخرج عن السور القديم وأبوابه السبعة.
الأسواق الحديثة والتي بنتها سوليدير خلال أعوام وبدأ افتتاحها الاسبوع الماضي لها هويتها الخاصة بها. هي انها لا تشبه وشوارع وسط بيروت الأخرى مثل فوش واللنبي أو ساحة النجمة. تتآلف مع نفسها، لكنها منفتحة من ناحية العلاقة مع البناء المحيط، ومفتوحة إلى السماء، وكذلك تحمل صورة عن شكل جديد للسوق يعيد في بعض تفاصيله صورة الأسواق القديمة التي كانت تعيشها المدينة.
النقاش الذي دار بعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1991، حول إعادة وسط بيروت إلى شكله القديم أم بنائه بعدة طرق، منها الحديث جداً، كما مبنى جريدة "النهار"، والحفاظ على ما لم تدمره الحرب بالكامل مثل اللنبي وفوش والمعرض، أو جعله ذو نمط خاص يشبه بيروت المدينة التي تفتش عن حداثة تخصها فيما هي تقع ضمن منطقة على توتر بين أصول وتقدم يدعو إلى رتق ما فتق وما بين تطور يبحث عن التحسين.
في العام 1894 كتب داوود نقاش في وصف اسواق بيروت نصاً اختصر فيه صورة أحد الأسواق:
"... من تأمل في سوق الخضر الذي يكاد لا يبلغ عرضه أربع أذرع، وأنه هو السوق المطروق أكثر من سواه، ورأى الفروش والسحاحير والسلال والأطباق والكراسي مكردسة تلالاً تلالاً على الجانبين أمام الحوانيت، وصاحب الحانوت وأولاده وحماره وخروفه، حكم حالا بأن شكوى المارين هي بمحلها أيضاً... والألطف والأظرف من ذلك تبسيط بائعي البوظة في الأسواق ونشر أوايلهم مثل تنكة البوظة وعلبتها وصندوق الملح وطبق الثلج وتنكة الأقداح والملاعق والمنشار والمضرب والمقشط. وهكذا بائعي الحلاوة جزريّة وسكريّة وسمسميّة مع الفرش والسيبة، ومثلهم حاملي قرب السوس والليموناضة وبائعي المعلل والكعك والفول النابت....".
في هذا النص الذي يصف فيه داوود نقاش جزء من أسواق المدينة يستطيع فيه الناس استعادة النقاش الدائم عن المدينة التي يريدون، وتحديداً مدينة بيروت، فالأسواق لم تبن مرة واحدة، بل أتت كلما احتاج التجار إلى سوق جديدة بنوها حسب الحاجة من حيث السعة، والمسافات في الوسط، مع بركة ماء أو سبيل. الأسواق البيروتية التي كانت قبل الحرب الأهلية لم تكن تتشابه من حيث الشكل، فبعضها كان ضيقاً لا يسع مرور ثلاثة أشخاص بجانب بعضهم، وبعضها الآخر كان يتسع لمرور عربة يجرها خيل أو بغال، وحتى في مسافة السوق من أولها إلى آخرها كانت سوق الطويلة أطول الأسواق، ولاسمها عدة روايات ومنها لأن من بناها هم آل الطويلة، أو لأن امرأة سويسرية كانت تتاجر بها وهي طويلة جداً، أو الرواية الأقرب إلى الواقع لأنها كان أطول أسواق بيروت.
[بين التاريخ والحداثة

سوق بيروت الجديدة تحمل في "زواريبها" أسماء أسواق بيروت القديمة. تعيدها إلى الذاكرة من حيث الاسم لكنها تختلف من حيث الشكل. فالأسواق القديمة لم تكن أصلاً موحدة بالشكل، وكذلك السوق الحديثة موحدة في البناء وليس في الأشكال الداخلية، فالسوق الجميل يختلف عن سوق الطويلة وسوق البازركان بشكله وبتفاصيل تميزهما عن بعضهما البعض، ونافورة "العنتبلي" القديمة حضرت ببركة محفورة بالرخام لكنها بتصميم يحمل شكلا حداثويا أكثر.
أسواق بيروت الجديدة، فتحت النقاش مجدداً على المدينة الحديثة والعصرية، والاختلاف بينها وبين المدينة القديمة. نقاش طويل حاولت شركة سوليدير تجاوزه من خلال عدم بناء مجمعات تجارية في المنطقة تكون مسلوخة عن الخارج، فالمرفق التجاري الحديث في المفهوم الغربي أي "المول" يتكون من بناء أو مجموعة أبنية لها أبواب تغلق وتفتح بحيث لا تسمح إلاّ لمن يعرفها بالاقتراب منها أو من يقصدها بالذات، وهو نموذج بني وتطور خلال سنوات عديدة ليصير نموذجاً للأسواق الحديثة في أحياء بيروت وضاحيتها الجنوبية، وكذلك في عدد من المناطق اللبنانية.
"المول"، دخل حياة اللبنانيين كما دخل حياة الدول العربية الأخرى، وصار جزءاً من ثقافة المجتمعات. لكن "أسواق بيروت" في سوليدير اختلفت عن شكله وبدت أقرب إلى شكل السوق القديم بانفتاحها على الناس. الساحات الخارجية غير ممتنعة على المارين، ما يسمح لأي كان بعبور الساحات والتجول بتلقائية. وشكل البناء، وقربه من الشارع والأبنية القديمة، وكذلك عدم انقطاعه عن ضوء الشمس، وهطول المطر، يسمح للمتنقلين أن يظلوا من ضمن المدينة وليس خارجها كما هي العلاقة مع "المول".
هنا تتشابه هذه السوق ومنطق الأسواق التي بنيت في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين في وسط بيروت. في تلك الفترة كانت الأسواق تبنى بحداثة تلك المرحلة، ويصير لكل سوق تخصص في نوع جديد من البضائع، مثل سوق اللحامين والخضار وسوق النجارين والحدادين، وكانت أسواق الطويلة وأياس والجميل لأنواع جديدة من البضائع والأشغال التي تغطي تلك المرحلة.
فاقتناء آلات الخياطة من الماركات العالمية مثل "سنجر" وغيرها، وكذلك الفونوغراف، كان في السوق الجميل، حيث كانت تباع الآلات الموسيقية والاسطوانات المستوردة من أوروبا ومن مصر. والثياب الحديثة الأوروبية مع الطربوش المغربي الأحمر كانت تباع في سوق الطويلة، وغيرها كذلك مثل بيع الأواني المنزلية من مادة الألومينيوم حيث أتت اعلانات تلك الفترة لتعطي صورة عن المواد المعروضة وكذلك عن الأمكنة التي تبيع هذه المواد وحداثتها، نسبة لأسواق بيروت القديمة مثل سوق الفشخة الذي تمّ هدمه في عشرينات القرن العشرين وبني مكانه شارع "ويغان"، حيث أعطى سمة تلك المرحلة للمنطقة التي غطاها. المنطقة التجارية الجديدة في "زواريبها" وشوارعها مخصصة للمشاة وتتضمن اسواقا منها مغطاة ومنها مكشوفة، حافظت على أسماء شوارع مشهورة سابقا كسوق الطويلة، وسوق الجميل، وسوق اياس، وسوق الأروام، بالاضافة الى سوق الصاغة والساحات القديمة كساحة العجمي وبركة العنتبلي. وهي تمثل الجزء الجنوبي في منطقة الأسواق التي تم انجازه حتى الآن. إضافة إلى جزء آخر لم ينته العمل به وسيتم تنفيذه على مراحل مختلفة خلال السنوات القريبة، وسيشمل مركزاً كبيراً للترفيه، إضافة إلى عدد من صالات السينما الحديثة، ومبنى مخازن كبرى ذا هندسة معمارية، يتيح للمتسوق او المتنزه ان يستمتع بنشاطات مختلفة في مكان واحد.
التصميم الجديد للمشروع يحمل في ثناياه طابعاً قريباً للأسواق التاريخية بحيث تؤكد على تواصل الحياة بين الماضي والمستقبل في هذه المنطقة من وسط بيروت. وقد شارك في التصميم والتنفيذ مهندسون معماريون لبنانيون مع مهندسين معماريين دوليين من حملة جوائز عالمية في ميدان التصميم المعماري كالاسباني رفايل مونيو مع سمير خير الله وشركاه، والبريطاني كافن داش مع رفيق خوري، والفرنسي فالود ويبستر مع انابيل قصار. اما مسؤولية التنسيق والتوحيد بين جميع هذه التصاميم، فقد كلف بها الخبير الفرنسي اوليفيه فيدال الذي الحقت به ايضاً مسؤولية تصميم المساحات العامة والخضراء ضمن هذا المشروع.
أسواق بيروت الحديثة تحمل بعض سمات من الماضي لكنها تتعاطى بمسؤولية مع المستقبل.بدأت تستقبل زوارها وتحتاج بعض الوقت لتصير من ضمن بيروت مدينة عريقة للمستقبل.

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

تابعنا