الدور التربوي والاجتماعي للمسجد

 

ب) الرسالة التعليمية للمسجد :

إن الحديث عن الدور العظيم للمسجد في التربية والتعليم ونشر العلم والمعرفة بين المسلمين ماضياً وحاضراً، لا يعد انتقاصاً من دور الجامعات ومعاهد التعليم. كما لا يعد دعوة إلى قصر التعليم على التعليم المسجدي الذي كان سائداً في بعض المساجد، وإنما الهدف هو الكشف عن الدور الحقيقي للمسجد في الإسلام في ميدان التربية، فضلاً عن تفعيل هذا الدور وإمكانية الإفادة منه في وقتنا المعاصر. كما تجدر الإشارة إلى أن المسجد روح قبل كل شيء، ومتى وجدت هذه الروح في الجامعات والمعاهد والمداس وفي العالم الإسلامي، كانت قادرة على أداء دورها في إحداث النهضة وبث اليقظة ومحاربة الانحراف الديني والخلقي والسياسي والتربوي وغيرها من الانحرافات في أوساط المسلمين. وعندما يصبح معلمو المدارس ومديروها المشرفون عليها على درجة عليا من الخلق والاستقامة والكفاءة، فإنهم سوف يؤدّون رسالة المسجد على أفضل وجه مهما كان نوع العلوم التي تدرس بالمساجد سواء كانت علوم الدين أو الدنيا(1).

فالعلم هو أساس العملية التربوية في الإسلام. ولقد ورد أن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله  صلى الله عليه و سلم   : >إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً<(2).

وطلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة، فهو مأمور بأن يتعلم الحلال والحرام، ليكون على نور من أمر دينه، وأول ما ينبغي عليه أن يتعلمه كتاب الله وسنة نبيه  صلى الله عليه و سلم   ليكون على بصيرة. يقول تعالى : { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }(1).

وقد حث النبي عليه السلام على تعلّم القرآن وتعليمه فقال : > خيركم من تعلم القرآن وعلمه<(2).

وقد أدرك الصحابة، رضوان الله عليهم، قيمة هذا الأمر، فكانوا يجتمعون في المسجد، حول النبي  صلى الله عليه و سلم   لأخذ العلم من منابعه. وقد حثهم النبي  صلى الله عليه و سلم   على تدارس كتاب الله في المسجد فقال : >ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<(3).

فكان المسجد معهداً لتعلم القرآن وتعليمه وفهم آياته وأحكامه، كما كان معهداً لدراسة الأحاديث النبوية والتفقه فيها. وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم يجلس به العلماء والفقهاء والمحدثون ويتحلق من حولهم الطلاب ينهلون من علمهم وفقههم(4).

ولقد ورد ما يدل على أن التعليم والتعلّم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  صلى الله عليه و سلم   : >من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر لما ليس له<(5).

ولما تأسست الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، كان المسجد النبوي من أهم دعاماتها، وكان هو المؤسسة التعليمية الرسمية الأولى في هذا المجتمع الجديد. وإن معظم المسلمين كانوا يتعلمون في هذا المسجد تعاليم الدين، وما أوجبته الظروف المرتبطة بنشأة هذا المجتمع. فآيات القرآن الكريم وفرائض الدين والقوانين المنظمة لهذا المجتمع، وسبل حمايته عسكرياً وسياسياً وتنظيم علاقته بالمجتمعات المحيطة به (حرباً أو مهادنة)، كل ذلك يمثل المحتوى التعليمي لهذه المؤسسة.

ولهذه الأهمية التي يحظى بها التعليم في الإسلام، رغب النبي  صلى الله عليه و سلم   في ارتياد المسجد للتعلم. ففي الحديث الذي رواه مسلم : >أفلا يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد، فيتعلم أو يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، خير من ناقتين وثلاث وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهم من الإبل<.

ومن أبرز ما يؤكد على أن المسجد كان مركزاً للتعليم والتوجيه، مجالس العلم التي كانت تعقد في مسجد الرسول، عليه السلام، ويتزاحم المسلمون عليها، ويتنافسون في القرب منه. فعن الحرث بن عوف أن رسول الله  صلى الله عليه و سلم   بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل إثنان إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله  صلى الله عليه و سلم  ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله قال : >ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحيى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه<(1).

ولقد سلك صحابة النبي، عليه السلام، هذا النهج فكانوا يتدارسون القرآن في مسجده، ويتذاكرون فيه الحلال والحرام، ليتفقهوا في الدين. روى الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة : >أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال : >يا أهل السوق ما أعجزكم !! قالوا : وما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال ذاك ميراث النبي، عليه السلام، يقسم وأنتم ها هنا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه. قالوا : وأين هو ؟ قال : فـي المسجد فخرجوا سراعاً. ووقـف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا فقال لهم : ما بكم ؟ فقالوا : يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم. فقال لهم أبو هريرة : وما رأيتم في المسجد أحداً ؟ قالوا : بلى، رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة : ويحكم فذاك ميراث محمد  صلى الله عليه و سلم