صيدا في عهد الأتراك, صيدا في عهد الانتداب, صيدا في عهد الاستقلال, صيدا والاحتلال الاسرائيلي, وضع صيدا أثناء الاحتلال وبعده.

صيدا في عهد الأتراك:

كانت الحقبة الزمنية من تاريخ العهد العثماني في صيدا مليئة بالأحداث، مميزة بالوعي القومي العربي والتخلص من ظلم الحكام الأتراك الذين تعاقبوا على الحكم في لبنان وسورية في تلك الحقبة، حاملة مآسي الحروب وبخاصة الحرب العالمية الأولى التي قاوم خلالها الشعب الصيداوي النقص في الأموال والأنفس بصبر، وواجه الأحكام العرفية التي أعلنها جمال باشا، قائد الفيلق الرابع التركي، بجرأة وبسالة، وتمسك بالحرية والقومية العربية، رغم الأحكام الجائرة التي طالت الشهيد توفيق البساط بالإعدام شنقاً، والشيخ محمد بهاء الدين الزين مفتي صيدا والشاب العبقري المجاهد رياض الصلح ووالده رضا بك الصلح وغيرهم بالإبعاد إلى بلاد الأناضول في تركيا، عدا الرجال والشبان الذين أوقفوا للتحقيق فعذبوا لأنهم كانوا منتمين إلى حركات عربية تحررية.

وفي هذه الحقبة الزمنية أيضاً، برزت مزايا الشعب الصيداوي الأبي، المعتز بأخلاقه وإنسانيته، المحافظ على أمجاد تاريخه، فاندفع إلى التخفيف من آلام إخوانه، وبلسمة جراح المصابين، ومواساة الضعفاء، وإطعام الجائع ومساعدة المحتاجين.

وظلت التحركات الوطنية والتحريرية قائمة، وبقيت الدعوة إلى الإصلاح والتعليم وتوجيهات العلماء والقادة السياسيين والإسلاميين، أمثال الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، منتشرة بين شبان صيدا ورجالها رغم ملاحقة السلطة لهؤلاء ولكل من لديه أو في مكتبه كتاب أو مخطوطة لأحد هؤلاء، وإنزال أقسى العقوبة عليه.

قاوم الشعب الصيداوي إبان الحرب العالمية الأولى مرارة سوق الشبان والرجال إلى ميادين القتال، والصبر على الجوع والحرمان، ومصادرة الحمير والبغال والمواشي وكذلك ظلم الأحكام العرفية التي اتخذ منها جمال باشا وسيلة لنشر الخوف بين السكان الآمنين، وطريقاً إلى إعدام خيرة الشبان الأحرار ظلماً وعدواناً.

وخلال الحرب العالمية الأولى لاقت صيدا معاملة سيئة من قبل الحكام الأتراك، فسيق رجالها إلى القتال، وألقي القبض على عدد من زعمائها ومفكريها، وأبعد البعض منهم إلى المنفى في هضبات الأناضول، منهم رضا بك الصلح وولده رياض، والشيخ محمد بهاء الدين الزين مفتي صيدا وحكم على أحد مفكريها المرحوم توفيق البساط بالإعدام شنقاً، ونفذ الحكم به وبخمسة عشر من خيرة الرجال القادة والمفكرين من لبنان وسورية شنقاً في ساحة البرج ببيروت، وذلك في السادس من أيار/مايو 1916م.

وكان العسكر يداهمون البيوت بحثاً عن الشباب والرجال لسوقهم إلى جبهات الحرب، ويصادرون القمح والشعير والذرة، ففُقدت المواد الغذائية من الأسواق، وضاقت المعيشة على كثير من الناس، وبلغ الجوع بالبعض إلى أكل قشر الليمون الحامض بعد إزالة القشرة الصفراء بحف ليمونة الحامض بحائط أحد البساتين، ولهذا أصبح لون الحيطان مائلاً إلى الأصفر.

كما أن هذه السلطة صادرت المواشي والبغال والحمير، إلّا أن أحد الحمير تحدّاها في صيدا، ألا وهو حمار أحد المكارية من المدينة، وذلك بأن امتنع من السير رغم جميع محاولات الجنود المولجين بمصادرة الدواب فتركوه في الشارع، وعاد صاحبه وأخذه.

وإني أذكر وأنا في سن السابعة أن الفار من الجندية كان يختبىء في مكان أمين، وإذا أراد التنقل في المدينة يخرج من مخبئه بزي امرأة، فيلبس الملاءة السوداء ويغطي وجهه بمنديل أسود، وهو الزي السائد للمرأة في ذلك الحين.

وإذا فوجىء الفار وهو في بيته بوصول الجندرمة، يهرب من البيت إلى السطح، ومنه ينتقل إلى سطوح المنازل المتصلة، وبعدها يختبىء عند أحد الأقارب والمعارف حتى دخول الليل فيخرج من مخبئه ويعود إلى بيته.

كما انتشرت في تلك الحقبة من الزمن الأمراض وبخاصة حمى التيفوس وداء الجرب، وجاءت موجات من الجراد الزاحف والطيار، أتت على الأخضر واليابس.

وبقي وضع المدينة على هذا الحال إلى أن اندحر الجيش العثماني، وبدأت طلائع جيش الحلفاء تفد إلى صيدا.