صيدا في عهد الأتراك, صيدا في عهد الانتداب, صيدا في عهد الاستقلال, صيدا والاحتلال الاسرائيلي, وضع صيدا أثناء الاحتلال وبعده.

صيدا والاحتلال الإسرائيلي:

في السادس من حزيران/يونيو 1982م اجتاحت إسرائيل صيدا بقواتها البرية، والجوية، والبحرية بوحشية وحقد، فدمرت بيوتاً وقتلت أبرياء، وروعت السكان، وعطلت الكثير من مرافق الحياة.

وبعد سيطرتها على أحياء صيدا والمنطقة الشرقية أخذت القوات الإسرائيلية تمارس الإرهاب بقصد إذلال الشعب وتطبيعه، فكانت تدعو السكان بواسطة مكبرات الصوت إلى التجمع في الساحات العامة وساحل البحر، وتفرض عليهم الوقوف الساعات الطويلة تحت الشمس، لا فرق عندها بين صغير أو رجل أو مسن، ولا بين طفل أو ولد أو امرأة، ثم تأمرهم بالمرور أمام رجال مقنَّعين، وعندما تصدر إشارة من أحدهم في أثناء المرور يُحتجز الشاب ويساق إلى معتقل موقت استحدث في براد الحمضيات التابع لشركة توضيب الحمضيات لصاحبها أبناء وأحفاد مصطفى محمود البساط. وكانت تداهم البيوت بوحشية، غير ملتفتة إلى ما كانت تسببه من ترويع للأطفال والنساء وخروج على الحرمات والمقدسات والقوانين الدولية وحقوق الإنسان. وكانت تعتقل العشرات في كل يوم وليلة من الرجال والشبان المراهقين وتزج بهم في معتقل أنصار (قرية في جنوب لبنان). وعلى سبيل المثال أسوق حادثة مداهمة بيتي لبيان بعض ما كان يحصل في مداهمات البيوت الأخرى في المدينة، مع العلم بأني أشغل منصب مفتي صيدا والجنوب.

ففي الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الجمعة في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1983م، استيقظت على دوي الرصاص الذي كان يطلق حول المنزل وعلى باب البناية، وبعد دقائق اقتحم بيتي عدد من الجنود المسلحين وقاموا بتفتيشه غير مراعين حرمة المنزل وأهله، فجلست وزوجتي في الدار، وإذا بأحد الجنود يأمر ولدي ساطع، الذي كان قد حضر من أوكلاهوما لقضاء عطلة رأس السنة، بالذهاب معهم فرضخ للأمر، وغاب ساعة ثم عاد إلى البيت، وفي الساعة العاشرة تقريباً من يوم الجمعة المذكور اتصل الحاكم العسكري الإسرائيلي هاتفياً بالبيت وأعلم زوجتي أن حادث الاقتحام الذي حدث ليلاً حصل خطأ، وأنه يرغب في زيارتي والاعتذار عن الحادث، وكنت آنذاك في مسجد الزعتري نحتفل بتأبين ثلاثة من الشهداء هم محمد علي الشريف وجمال الحبال ومحمود زهرة.

وفي المساء عاد الحاكم إلى الاتصال بي مبدياً رغبته بزيارتي والاعتذار عن الحادث الذي حصل خطأ، فاستمهلته للجواب إلى يوم الغد باعتبار أن الأمر يرتبط بالتمثيل وحصانته، وإن القرار في ذلك يعود إلى قادة وعلماء ووجهاء المدينة.

وبالفعل اجتمعت فاعليات المدينة في منزلي وتدارست الموقف وأصدرت القرار الذي بلغ إلى الحاكم الإسرائيلي والمتضمن بأن الاعتذار يكون بالإفراج عن جميع المعتقلين وفتح المعابر المؤدية إلى العاصمة.

ومن الإجراءات التعسفية التي كانت تمارسها القوات الإسرائيلية أيضاً:

أ ـ إطلاق النار عشوائياً في شوارع صيدا الرئيسة بقصد الإرهاب وإحداث الذعر وإقفال المحلات وشل الحركة التجارية.

ب ـ إقامة الحواجز في المدينة وعلى مداخلها لعرقلة تحركات المواطنين وإذلالهم.

جـــ ـ منع تنقل المواطنين في صيدا إلى العاصمة وبقية المناطق اللبنانية وذلك بإقفال المعابر المؤدية إليها.

د ـ إرغام بعض التجار على استيراد البضائع والمنتجات الزراعية من إسرائيل بقصد ضرب الاقتصاد الوطني.

هـ ـ استعمال مختلف أساليب التعذيب والتنكيل التي جاوزت أساليب محاكم التفتيش والنازية في أوروبا بفظاعتها.

و ـ السعي الحثيث لإثارة الفتن الطائفية والمذهبية بين المواطنين بشتى الوسائل والأساليب، وافتعال الحوادث لإضرام نارها.

ز ـ العبث بالمقدسات بإدخال الكلاب إلى ساحات المساجد.

ومع ذلك، فإن الشعب الصيداوي المناضل، والمؤمن بالله، والمتمسك بوطنه، لم ييأس ولم يكل بل واجه إجراءات العدو التعسفية كلها بصمود مكين، وصبر جميل، ومقاومة عنيدة، وموقف موحَّد وجريء من فعاليات المدينة وقادتها الروحيين والسياسيين.

ولا بد لي في هذه المناسبة أن أشيد بموقف نائب صيدا وممثلها في الدولة الدكتور نزيه البزري المشرف والوطني الذي رفض بإباء استقبال الحاكم الإسرائيلي في منزله حفاظاً على كرامة وطنه، وعزة أهل بلده، رغم الضغوط والمضايقات التي مارسها الاحتلال عليه، وظل يقاوم الاحتلال وما زال حتى اليوم. وفي السادس عشر من شباط/فبراير 1985م انسحبت القوات الإسرائيلية من صيدا وجوارها، فشكل هذا الانسحاب خطوة مباركة في سيرة التحرير والإنقاذ، وبراءة جهادية استحقتها المقاومة الإسلامية والوطنية لقاء كفاحها وتضحياتها. وكان دخول الجيش اللبناني في ذلك اليوم الفريد، حيث تجمع الشعب الصيداوي في الشوارع والساحات لمشاهدة انسحاب المحتل من مدينته باعتزاز، وليستقبل طلائع جيشه الوطني بفرحة اعتزاز. لقد كان لدخول الجيش اللبناني في ذلك اليوم معناه وصداه في نفوس الصيداويين لما مثله من عزة وكرامة أمة وقوة.

في الثامن عشر من آذار/مارس 1985م شهدت صيدا حدثاً خطيراً يحمل فتنة من فتن إسرائيل لضرب التعايش الإسلامي المسيحي، حيث قامت فئة من القوات اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل بمناوشات مع قوة من الجيش اللبناني الموجود شرق صيدا. وظلت هذه المناوشات التي امتدت باعتداءات من قبل القوات العميلة على صيدا المدينة وعلى مخيم عين الحلوة والمية ومية قائمة حتى السادس والعشرين من نيسان/أبريل 1985م حيث انسحبت القوات العميلة مصطحبة أكثر العائلات المسيحية المقيمة في تلك المنطقة.

ولكن التعايش المسيحي ـ الإسلامي ظل سليماً، وما زالت صيدا تعتبر عنوان هذا التعايش رغم وجود العملاء المندسين بين الصيداويين.

لقد صمدت صيدا بوجه إسرائيل أيام الاحتلال وما زالت تتلقى الاعتداءات جواً وبرّاً وبحراً بصبر ومقاومة، وتقدم الضحايا وتتحمل الأضرار والخسائر مؤمنة بأن النصر مع الصبر وبإن الفرج مع الكرب وبأن مع العسر يسرا.