المسجد الأقصى, المسجد النبوي الشريف, المسجد الأموي, المسجد الحرام, مسجد قباء, مسجد قبة الصخرة, مسجد عمرو بن العاص.

مسجد عمرو بن العاص

تمهيد:

إذا ذكرت المساجد في مصرـ وما أكثرها ـ فهذا أول مسجد بني هناك بعد مسجد المدينة والكوفة والبصرة ، وهو في نفس الوقت رابع مسجد في الإسلام.

وإذا ذكرت محاريب المساجد فيها فمحراب هذا المسجد أول محراب من نوعه في مصر.

وإذا ذكر أسماء الخلفاء والولاة والعلماء ، الذين نسبت إليهم المساجد فهذا المسجد ينسب إلى أول فاتح مسلم وطئت قدمه أرض(الكنانة) مصر. إنه عمرو بن العاص.

فاتح مصر الأول:

كان عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي رضي الله عنه صحابياً جليلاً ذا خبرة بشئون الحرب والجيوش ، عهد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بإمرة الجيش في غزوة ذات السلاسل مع وجود أبي بكر وعمر رضي الله عنهما..

وهو وإن جاء إسلامة متأخراً بعض الشئ ـ إذ لم يسلم إلا يوم الهدنة أو بعد الحديبية ـ إلا أنه كان من الصحابة المقدمين والرجال البارزين ، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فكان صادق الإيمان عظيم اليقين..

وقد دخل عمرو بن العاص المعترك السياسي منذ شبابه قبل الإسلام ، عندما أرسلته قريش لرد المهاجرين إلى الحبشة محملاً بهداياها إلى النجاشي ، وقد ولاه ـ بعد الاسلام ـ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إمرة غزو الشام، ثم اتجه بجيشه نحو مصر ، فافتتحها عام 20 للهجرة ، وولاه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إمارتها وظل بها في خلافة عثمان رضي الله عنه إلى أن عزله عنها ، ثم عاد إليها في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة 38 هـ ، وبقي أميراً على مصر حتى توفي ليلة عيد الفطر سنة 43 هـ ،  ودفن بالقرافة الكبرى.

المسجد … أول الأعمال بعد الفتح :

ولقد كان من أوائل أعمال عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد الفراغ من فتح الإسكندرية عام 20 هـ ، أن جمع كبار الصحابة الكرام الذين كانوا معه في جيشه ، واختار ناحية مشرفة على النيل ، ثم وقف مع تلك الثلة الكريمة على تحديد اتجاه القبلة للمكان الذي أصبح أول جامع للصلاة في مصر ، بل في أفريقيا كلها.

البناء الاول المتواضع:

وقد كان بناء المسجد ذاك بناء متواضعاً بسيطاً ، إذ لم يجعل له في أول الأمر محراب مجوف ، ولا منارة سامقة ، ولا فرش ولا حصير ، بل كانت مساحته وقت إنشائه 50 ذراعاً في 30 ذراعاً مغطاة بالخشب وسعف النخيل ، وأعمدته من جذوع النخل، وكانت جدرانه العارية من النقوش ثلاثة جدران فقط ، أما جهة النيل ـ وهي الجهة الشمالية ـ فلم يكن فيها جدار..

ويقال: إن عدد الصحابة الذين اجتمعوا على إقامة محرابة بلغوا ثمانين رجلاً، وكان الطريق يحيط به من كل جانب ، وله بابان في الجهة البحرية ، ومثلهما في الجهة الغربية ، وآخران من الجهة الجنوبية مواجهان لدار عمرو بن العاص الأمير نفسه.

ويقال أيضاً إن عمرو بن العاص اتخذ فيه منبراً للخطبة عليه ، فأنكر ذلك الخليفة عمر رضي الله عنه وكتب إليه يأمره بكسره ، وعّنفه بقوله: أما يكفيك أن تقوم قائماً والمسلمون جلوس تحت عقبيك .. فكسره عمرو امتثالاً لأمر عمر رضثي الله عنه.

وجاء في بعض الروايات أنه أعاده بعد وفاته.

الدور الأموي:

وقد انصب اهتمام الأمراء والخلفاء في بادئ الأمر على توسعة هذا المسجد والإضافة فيه مع تجميله وتحسينه وذلك لكونه المسجد الوحيد الذي تقام فيه الجمعة ثمة ، مما يجعل المصلين فيه يزيدون دائماً على كل اضافة وزيادة وتوسعة.

ففي سنة 53 هـ في خلافة معاوية بن أبي سفيان ، قام والي مصر مسلمة بن مخلد بإزالته وإنشاؤه من جديد ، بعد أن ضاعف حجم مساحته وجعل له سوراً من الآجر وجعل له صحناً مكشوفاً ، وزخرف جدرانه وسقوفه ، وأنشأ في جوانبه الأربعة منائر أو صوامع للمؤذنين ، ونقش اسمه عليها ، وأمر بفرش المسجد بالحصر بدل الحصباء. ويقال: إن تلك المآذن كانت أقدم المـآذن التي أقيمت في الإسلام ، حيث لم تكن للمساجد بعد في تلك العصور مآذن مرتفعة فوق البنيان.

وفي سنة 79 هـ قام عبد العزيز بن مروان والي مصر بتوسعته وتجديد بنائه...وفي خلافة الوليد بن عبد الملك ـ الذي اشتهر بالاهتمام بالعمارة عموماً والمساجد خصوصاً ـ قام واليه على مصر قرة بن شريك العبسي عام 93 هـ بهدمه بأمر الخليفة الوليد ، ثم أعاد بناءه من جديد ، مع زيادة مساحته.

وكان من إضافاته فيه: محراب مجوف في جهة القبلة ، ومنبر خشبي جميل ، ومقصورة ( وهي المكان المخصص داخل بيت الصلاة لصلاة الأمير وحاشيته )

وعمد قُرّة إلى أربعة أعمدة تجاه المحراب ، فطلى بالذهب تيجانها ، ونتيجة الإتساع الواضح في مسجد عمرو ـ بعد الإضافة ـ فقد جعل له أربعة أبواب في جهته الشرقية والغربية ، وثلاثة أبواب في جهته البحرية.

الدور العباسي:

ولقي جامع عمرو بن العاص اهتمام الدولة العباسية ، فقد قام والي مصر صالح بن علي ( وهو عم الخليفة أبي جعفر المنصور ) عام 133 هـ بزيادة جزء في الجامع في المؤخرة ، وأصلح واجهته ، وكان عمله هذا إتماماً لعمل قرة بن شريك.

ثم في عام 175هـ ـ في خلافة هارون الرشيد ـ زاد فيه موسى بن عيسى أمير مصر من الناحية البحرية فضم إلى المسجد ساحة ملاصقة له تعرف برحبة أبي أيوب.

وفي عهد الخليفة المأمون تولى مصر عبد الله بن طاهر ، فأولى الجامع شديد اهتمامه ، فأمر بتوسعة المسجد وذلك بإضافة أرض تساوي جميع مساحته السابقة ، فزيد فيه من الجهة القبلية زيادة كبيرة ، حتى بلغت أبعاد المسجد 120 متراً طولاً و 112.5 عرضاً ، أي أن مساحته الكلية بلغت على وجه التقريب ( 15 ) ألف متر مربع. وبهذه الزيادة بلغ مسجد عمرو بن العاص أقصاه من حيث المساحة.

ويجتهد المهتمون اليوم بالمحافظة على تلك المساحة الشاسعة لهذا المسجد الرائع القديم.

وإذا كانت مساحته لم تتعد ما زاده عبد الله طاهر العباسي ، فإنه فيما بعد ذلك من السنين لقي مسجد عمرو بن العاص في مصر اهتماماً كبيراً بالتجديد والتحسين والتزيين من قبل عدد كبير من الأمراء والولاة والخلفاء.

الطولونيون والأخشيديون والفاطميون:

فبعد الحريق المروع الذي أتى على جزء كبير من المسجد عام 275 هـ ، قام خماروية بن أحمد بن طولون بعمارته كله على وجه متقن جميل.

ثم قام في عام 324هـ محمد بن طنج الأخشيد فأدخل زخارف جميلة في المسجد ، ونقش أكثر أعمدة المسجد ، وطوقها بالأطواق المعدنية اللماعة.

وتوالت أعمال التجميل فيه إلى الحال الذي بدأ فيه ينافس المساجد العظام في العالم الإسلامي في حينه. يصفه حينذاك الرحالة محمد بن أحمد المقدسي البشاري بعد أن زاره قبل عام 375هـ بقوله: ( إنه حسن البناء ، وفي حيطانه شيء من الفسيفساء على أعمدة رخام ، أكبر من جامع دمشق ، وهو أعمر موضع بمصر).

ودأب الفاطميون على العناية بهذا المسجد ، فهذا الحاكم بأمر الله يهدي للمسجد مصاحف حسنة الخط وربعات كثيرة ، ويجري فيه عمارة حسنة ، ويهدي إليه تنوراً ( أي ثريا ضخمة ) من الفضة.

وهذا المنتصر بالله يأمر بتلبيس صدر المحراب وأعلى العمودين اللذين على جانبيه بالفضة المنقوشة ، مع العناية التامة بالمسجد...

بل إن المسجد شهد مبكراً ظهور المحاريب والمقاصير المتنقلة ، فقد عملت عام 442هـ للإمام مقصورة خشبية من خشب الساج منقوش بعمودين من الصندل، توضع أيام الصيف في صحن المسجد طلباً لبرودة الهواء الطلق ، وترفع شتاء حيث يصلىفي داخل بيت الصلاة.

شهادات تاريخية:

ويبدي اعجابه بمسجد عمرو بن العاص في تلك الفترة العامة الرحالة الشهير ناصر خسرو عندما زاره عام 439هـ ، بما سطره في رحلته عنه ، يقول: ( هذا المسجد العتيق يقوم على (400) عمود من الرخام ، وجدار المحراب كله مغطى بالرخام الأبيض ، كتبت عليه آيات القرآن بخط جميل ، يضيئه بالليل من الداخل تنور أهداه إليه الخليفة الحاكم بأمر الله وزنه سبعة قناطير من الفضة ، بالإضافة إلى أكثر من 700 قنديل، وكان المسجد مفروشاً بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض.

ويضيف الرحالة ناصر خسرو عنه قوله: إنه كان من أعمر المساجد بالناس والحركة ، وهو مكان اجتماع سكان المدينة الكبيرة ، ولا يقل الموجودون فيه ـ من الصباح إلى صلاة العشاء ـ عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتّاب الذين يحررون الصكوك ، أي أن جامع عمرو بن العاص كان مركزاً علمياً رائداً يجتمع فيه الشيوخ والأساتذة بالطلبة من جميع الأنحاء والأرجاء ، كما يؤمه الغرباء للقاء من يبحثون عنهم من أهل مصر ، وهو إضافة لذلك مقر مهم لكثير من المعاملات والعقود والمبادلات ، التي كانت تتم بشكل عفوي بين الناس عن طريق العقود وموثّقيها.

كارثة متعمدة:

وفي عام 564هـ ابان الحملة الصليبية على بلاد المسلمين ، تخوف المسلمون من احتلال مدينة الفسطاط التي فيها جامع عمرو بن العاص ، فعمد الوزير الضعيف شاور إلى اشعال النيران فيها ، لعجزه عن الدفاع عنها ، فاحترقت المدينة، وتخرب جامع عمرو بن العاص ، وتشعث ، بعد أن استمرت النيران 45 يوماً تتأجج في الفسطاط وتأتي على ما فيه.

 

عودة ثانية إلى الوجود:

إلا أن بطل تحرير بلاد المسلمين من الصليبيين صلاح الدين الأيوبي ، بدأ مرحلة إعمار المسجد من جديد بعد تلك النكبة المهولة ، فأصلح منه عام 568هـ  كثيراً ، وأعاد بناء صدر الجامع والحراب الكبير ، وكساه بالرخام ، ونقش عليه نقوشاً حسنة منها اسمه.

ثم تابع ترميمه الظاهر بيبرس البند قداري القائد المملوكي الفذ عام 666هـ .

ثم من بعده جاء المنصور قلاوون فأصلحه سنة 687هـ ، ومثله فعل الأمير سلار سنة 703هـ ، وبمثل ذلك قام رئيس التجار برهان الدين إبراهيم عمر ، والسلطان قايتباي.

وكانت معظم تلك الترميمات تتم بالجص المنقوش بالكتابات النسخية الرائعة. مما أضفى على المسجد جمالاً فريداً ومنظراً بديعاً.

الدورالعثماني:

وفي1212 في عهد العثمانيين قام الأمير مراد بك بإعادة بناءِ داخلِ الجامع بعد هدمه ، إثر سقوط إيوانه وميل عُمُده ، إلا أن القائمين على البناء لم يكونوا بمستوى العمل الكبير والمهمة العظيمة لمثل هذه المساجد الضخمة ، فكان ترميم مراد بك غير منتظم ولا متناسق ،  غير أنه بنى بالمسجد منارتين هما الباقيتان إلى الآن.

ووافق الفراغ من ترميم مراد بك لمسجد عمر بن العاص آخر جمعة من شهر رمضان ، فاحتفل بافتتاحه ، وأثبت تاريخ هذه العمارة في ألواح تاريخية فوق الأبواب الغربية وفوق المحرابين : الكبير والصغير.

وقد اتخذت عادة الاحتفال الشعبي الكبير بآخر جمعة في رمضان في هذا المسجد بصلاة الأمراء والملوك فيه منذ ذلك الحين.

وقد قام محمد علي باشا بإصلاحه وتجديد سقفه وتقويم مبانيه عام 1317هـ.

محكمة ، وبيت مال اليتامي:

ويشير بعض الدارسين والمهتمين بمسجد عمرو بن العاص إلى أنه كانت فيه محكمة لفض المنازعات الدينية والمدنية ، وكانت تعقد جلساتها في الجانب الغربي منه.

كما أن مسجد عمرو في الفسطاط كان به بيت المال ، فقد وصف بيت الرحالة الرحالة ابن رسته بأنه كان موجوداً أمام المنبر على شكل قبة عليها أبواب من حديد. ويرى بعض هؤلاء الدارسين أن بيت المال هذا ، ليس هو بيت المال الرئيسي الخاص بالدولة ، بل أنما هو بيت مال اليتامى.

حلقات ودوروس وعلماء:

ولا يفوتنا أن نشير إلى الدور العلمي الرائد الذي قام به جامع عمرو بن العاص طيلة قرون وقرون .

ويكفيه فخراً أن الإمام الشافعي ألقى فيه دروسه.

كما يكفيه فخراً أن حلقات الدرس فيه في البداية كانت سنة 326هـ (33) حلقة منها (15) حلقة للشافعيين و (15) حلقة للمالكيين و(3) حلقات للأحناف ثم ارتفع العدد إلى (110) حلقات. فإذا قدرنا أن كل حلقى بها (20) مستمعاً فلا أقل من أن يكون مجموع طلاب العلم في جامع عمرو بن العاص حينذاك أكثر من ألفي طالب...

بل كان في المسجد عام 415هـ حلقة درس ووعظ للسيدات ، تقوم عليها إحدى النساء الشهيرات في زمانها ، وهي أم الخير الحجازية...

ومن تلك الحلقات / وبأسماء مدرسيها وعلمائها ، سميت في المسجد زوايا بأسماء بعض الرجال ، مثل الزاوية المجدية، والزاوية الصباحية، والزاوية الكمالية وغيرها.

ورحم الله ابن دقماق المؤرخ ، حيث يصف جامع عمرو بن العاص بقوله: (إمام المساجد ومقدم المعابد ، قطب سماء الجوامع ، ومطِلع الأنوار اللوامع ، وموطن أولياء الله وحزبه...).