العصور التي مرت على صيدا

1- صيدا من الفتح العربي حتى الفتح الفاطمي

( أ ) الفتح العربي وتحصين صيدا بالقلاع.

(ب) صيدا في العصرين الأموي والعباسي الأول.

(ج) صيدا في العصرين الطولوني والإخشيدي.


صيدا من الفتح العربي حتى الفتح الفاطمي

( أ ) الفتح العربي وتحصين صيدا بالقلاع:

تُعتبر مدينة صيدا في مقدمة مدن الساحل الشامي التي افتتحها يزيد ابن أبي سفيان بعد أن استخلفه أبو عُبيدة بن الجرّاح على دمشق. وكانت صيدا من أعمال دمشق ولذلك عهد إليه أبو عبيدة بفتحها مع غيرها من المدن الساحلية التي تتبع إقليم دمشق مثل عرقة وجبيل وبيروت ثم طرابلس التي افتُتِحت فيما بعد في خلافة عثمان بن عفان (لعبد العزيز سالم، طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، الإسكندرية 1967 ص35،36 ). أما سواحل الأردن فقد تعاون في فتحها كل من يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، واشترك معهما معاوية، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً (البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، القاهرة 1957 ج1 ص139). وتشير المصادر العربية إلى أن معاوية بن أبي سفيان اشترك في فتح صيدا وسواحل دمشق، وأنه كان في مقدمة الجيش العربي الإسلامي الذي توجه لفتح الساحل، فالبلاذري يذكر أن " يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وهي سواحل، وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثير من أهلها". ويورد ابن الأثير نفس النص مع بعض التغيير الطفيف، فيشير فقط إلى مضي أبي عُبيدة إلى فحل وقيام يزيد بغزو صيدا وصور وسواحل دمشق الأخرى (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبعة دار صادر، بيروت 1965 مجلد 2ص431). ويؤكد البلاذري أن يزيد ابن أبي سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق، باستثناء طرابلس التي لم يكن يطمع فيها وقتذاك، ففتح معاوية هذه السواحل فتحاً يسيراً، " فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة، فربما قوتل قتالاً غير شديد، وربما رمى، ففتحها".

   ويختلف المؤرخون في تحديد تاريخ فتح صيدا، فابن الأثير يذكر هذا الحدث في جملة حوادث سنة 13 ه (634م). والبلاذري لايذكر تاريخ قيام يزيد ابن أبي سفيان بهذا الفتح، وإنما يشير إلى أن ذلك تم بعد فتح دمشق. "ومن المعروف أن فتح دمشق تم في رجب سنة 14 ه /635م اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، طبعة دار صادر، بيروت 1960، ج2 ص140. وذكر الطبري نقلاً عن ابن اسحق والواقدي أن دمشق فتحت في سنة 14 ه (تاريخ الأمم والملوك، طبعة دار القاموس الحديث، ج4 بيروت، ص59)". أما فيما عدا ذلك فليس لدينا من النصوص ما يشير إلى تاريخ محدد لهذا الفتح. ومن الثابت أن فتح سواحل دمشق باستثناء طرابلس، تم الفراغ منه في آخر سنة 16 ه (صادر بن يحيى، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرق، بيروت 1968 ص12). أو أوائل سنة 17 ه، لأن عام 18 ه/ 639م شهد طاعون عمواس الذي توفي به نحو خمس وعشرين ألفاً من المسلمين، ولذلك لا نستبعد أن يكون يزيد قد فرغ من فتح صيدا في سنة 15 ه /636م ( يخص السيد منير الخوري في كتابه " صيدا عبر حقب التاريخ" صيدا بالذات عند تعرضه لذكر تغلب الروم على السواحل، كما يخصها بالذكر عند حديثه عن استرداد المسلمين لها ص 126. ولا أدري من أي مصدر استقى المؤلف هذه الأخبار عن صيدا).

   ولم يلبث البيزنطيون في عهد قنسطانز الثاني، أن تغلبوا على بعض سواحل الشام في بداية خلافة عثمان بن عفان سنة 23 ه/644 م، ولكن معاوية، تصدى لهم واستردها، ثم رمم قلاعها، وشحنها بالمقاتلة، ووزع عليهم القطائع.( البلاذري، ج1 ص150 و ابن الأثير، ج2 ص431). وليس لدينا ما يؤكد أن صيدا كانت في جملة هذه المدن الساحلية التي تغلب عليها اليزنطيون، ثم استردها معاوية، على أننا لا نشك في أن صيدا حظيت باهتمام معاوية، فعني بتحصينها في خلافة كل من عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان فما أن توفي أخوه يزيد  في عام عمواس حتى أسند إليه الخليفة الراشد عمر ولاية دمشق بسواحلها بالإضافة إلى فلسطين ولكن عمر فصل القضاء عن السلطة الإدارية، فولي مع معاوية أبا الدرداء الصحابي قضاء دمشق والأردن وصلاتهما، وعُبادة بن الصامت قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما (البلاذري، ج1، ص167). وكانت معظم سواحل دمشق قد خُربت قلاعها ودُثرت تحصيناتها، فكتب معاوية إلى عمر بعد أن أسندت  إليه ولاية الشام بطبيعة الحال في سنة 18 ه يصف له حال السواحل، وما تحتاج إليه حصونها وقلاعها من ترميم وتجديد، فأمره عمر بترميم حصونها " وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد  لها" (البلاذري، ج1 ص152). ويبدو أيضاً أن معاوية تباطأ في ترميم هذه القلاع، وأنه لم يكن قد فرغ من هذه المهمة عندما داهمه البيزنطيون بغزوهم لهذه السواحل في بداية خلافة عثمان بن عفان. فلما تمكن معاوية من إجلائهم عنها كتب إليه عثمان بن عفان يأمره "بتحصين السواحل وشحنها وإقطاع من ينزله إياه القطائع ففعل" (البلاذري، ج1 ص152). ومنذ ذلك الحين كثرت وفود المسلمين إلى السواحل الشامية للرباط.

   وهكذا التزم معاوية بادئ ذي بدء بتطبيق سياسة دفاعية عن السواحل لمواجهة الخطر البيزنطي على الثغور الشامية تمهيداً لتطبيق سياسة بحرية هجومية دعامتها الأساطيل، فاهتم بتحصين السواحل متوسلاً في ذلك بوسائل برية، عن طريق ترميم حصونها وأسوارها وترتيب المقاتلة فيها، وتنظيم الحراس على مناظرها،    Cheira, la)   lutte entre Arabes et Byzantins, Alexandrie, 1947, p. 85) وإقامة الأربطة أو المسالح أو المناظر وشحنها بالمرابطة لمراقبة النواحي التي يقبل منها البيزنطيون في البحر والإنذار باقتراب العدو ليلاً عن طريق إيقاد النار في مواقيد بأعلاها، تنبيهاً للمرابطة والحراس بالخطر الوشيك. (السيد عبد العزيز سالم، تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي، ص64).

   وليس لدينا من النصوص التاريخية ما يشير إلى قيامه بترميم تحصينات صيدا بوجه خاص، ولكننا نفهم ضمناً أن صيدا كانت من بين المدن الساحلية التي حظيت باهتمامه، فقد كانت على الأقل من أهم ثغور دمشق، على أن البلاذري عندما يعدد أسماء المدن التي رممها معاوية لا يذكر صيدا من بينها، وإنما يذكر مدينتين رئيسيتين هما عكا وصور اهتم بترميم قلاعهما قبيل ركوبه البحر غازياً إلى قبرص. ولعل إغفاله لذكر صيدا يرجع إلى أنها لم تكن على مستوى مدينتي عكا وصور من حيث الأهمية الدفاعية ومن حيث الاتساع العمراني، وإن كان يعمم نزول جند العرب في جميع سواحل الشام.

   ونستخلص من كل ما سبق أن صيدا _ شأنها في ذلك شأن غيرها من مدن الساحل الفينيقي القديم _ لقيت اهتماماً خاصاً من الخليفتين الراشدين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بترميم قلاعها وأبراجها، وأن ذلك تم بنظر معاوية وهو بعد عامل على الشام. ولا ينبغي أن ننسى أن صيدا بالذات تعرضت للتخريب والتدمير في كثير من مراحل تاريخها القديم، وأنها ظلت بدون أسوار تحميها فترة طويلة من الزمن منذ أن أحرقها أهلها في سنة 346ق.م. أما صور فقد تركها الإسكندر الأكبر في سنة 332ق.م. أطلالاً دارسة بعد أن خرّب بنيانها ودمر تحصيناتها. ثم إن الصراع طويل الأمد الذي نشب بين خلفائه في مصر وسورية من أجل التنافس في السيطرة على الساحل الفينيقي واستمر حتى قدوم الرومان في سنة 64ق.م، وتعرُّض صيدا للغزو من قبل السلوقيين حيناً والبطالمة حيناً آخر لم يفسح المجال أمام ولاتها ليرمموا ما خربته الحروب ويعيدوا بناء المدينة التعسة التي نزلت في العصر الروماني من عداد المدن الكبرى إلى مصاف المدن الصغرى، وفقدت أهميتها، وذابت شخصيتها حتى الفتح العربي عندما ألحقت بكورة دمشق وأصبحت من الثغور الهامة في العصر الإسلامي. ولا يمكننا أن نقبل بأي حال من الأحوال مزاعم بعض الباحثين الذين يجردون من العرب كل فضل في إعادة تحصينها، ومن بينهم الأستاذ فيليب حتي الذي يؤكد أن حصونها لم تبن ثانية منذ استحالة المدينة إلى ركام من رماد في عهد أرتحششتا الثالث أوخوس حتى زمن الصليبييين (فيليب حتي، لبنان في التاريخ، ص64)، وروبين فيدين الذي يذهب إلى القول بأن صيدا الفينيقية "في رقعة أرضها بنيت وأعيد بناؤها قرناً بعد قرن وتخرّبت مراراً، ولكن درجات تخريبها ووسائل ذلك تغيرت عبر التاريخ، فالآشوريون سووها بالأرض، والفرس أحرقوها بالنار والعرب في حالتين أزالوا أسوارها" (Robin Fedden, Syria,London, 1954, p. 48). وليس لدينا ما نرد به على هذه الافتراءات والأقوال الظالمة سوى أن نذكر نصاً كتابياً هاماً عثر عليه في صيدا يشير إلى بناء برج بأمر من الوزير الأفضل شاهنشاه وزير الخليفة الفاطمي المستعلي بالله على يد الأمير سعد الدولة أبو منصور أشتكين الأفضلي في سنة 491 ه/ 1097م (Repertoire   Chronologique d'Epigraphie arabe, t.8 p.40) أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام بعام واحد، أو الرجوع إلى نص المقدسي البشاري الذي يؤكد أنها مدينة حصينة على الساحل في زمنه ت387 ه (المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبعة ليدن، 1906 ص160  le Strange, Palestine under the Moslems, Beirut, 1065, p. 32/ وراجع أيضاً ما ذكره الدمشقي الذي كتب في سنة 1300م إذ يذكر أن مملكة دمشق كانت تضم تسعين إقليماً من بينها صيدا في "الدمشقي، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، تحقيق مهرن، ليبزج 1928 ص 201"). أو إلى نص ورد في سفر نامة للرحالة الفارسي ناصر خسرو في النصف الأول من القرن الخامس الهجري أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى بنحو نصف قرن يذكر فيه أن لصيدا سور حجري محكم (ناصر خسرو علوي، سفر نامة " النص الفارسي " طبع برلين 1340 ه، ص20)، أو إلى ما ذكره الجغرافي المغربي الإدريسي ت560 الذي شاهد على صيدا سوراً من الحجارة (Idrisi, Palaestina and Syria. P. 15).

(ب) صيدا في العصرين الأموي والعباسي الأول:

   دخلت صيدا منذ أن افتتحها المسلمون حتى نهاية عصر المماليك في نطاق إقليم دمشق، وأصبحت كورة من إقليم دمشق الذي كان يضم إقليم سنير وكورة جبيل وبيروت وصيدا وبثنية حوران وجولان وظاهر البلقاء وجبرين الغور، وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وبصرى عمان والجابية والقريتان والحولة والبقاع، كما أن ساحلها كان من بين سواحل المدن الست التي تتبع دمشق وهي صيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وصور (اليعقوبي، كتاب البلدان، ليدن 1928 ص 201). وذكر المقدسي من مدنها بانياس وصيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وناحية البقاع ومدينتها بعلبك (المقدسي، أحسن التقاسيم، ص354).

   نزل صيدا منذ الفتح جماعة من قريش ومن اليمن ( اليعقوبي، كتاب البلدان ص327 / Marmardji, Textes geographiques arabes sur la Palestine, Paris 1951, p. 125 ) وهو أمر كان يحدث في معظم المدن التي افتتحها المسلمون عندما كانت تختط؟ فيها القبائل العربية التي أسهمت في الفتح. أما البلديون من أهل صيدا القدامى فقد حرص معاوية على إجلائهم عن المدينة إلى مواضع أخرى عيّنها لهم، على أن يحل محلهم قوم من الفرس استقدمهم معاوية من فارس، وفي ذلك يقول اليعقوبي: " إن جبيل وصيدا وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان"،

 ( اليعقوبي، ص 327 / Marmardji, op. Cit. P. 125   -صلاح الدين المنجد، مدينة دمشق عند الجغرافيين والرحالين المسلمين، بيروت، 1967، ص 327)، والظاهر أن صيدا لم تكن وحدها التي طبق فيها هذا التبديل السكاني، لأن البلاذري يشير إلى حركة تبديل سكاني أخرى حدثت وهو خليفة، إذ نقل " قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها سنة اثنتين وأربعين، ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية في هذه السنة أو قبلها أو بعدها بسنة جماعة، فكان من قواد الفرس مسلم بن عبد الله، جد عبد الله بن حبيب بن النعمان ابن مسلم الأنطاكي". ونستنتج من هذا النص أن بعلبك وحمص استوطنهما قبل سنة 42 ه أقوام من الفرس. والظاهر أيضاً أن معاوية حذا في سياسته السكانية، إذ أحل عناصر فارسية وعراقية محل عناصر وطنية، حذو أسرحدون الآشوري عندما افتتح صيدا بالسيف في سنة 678 ق.م ودمر منازلها، ونقل قسماً كبيراً من أهلها إلى بلاده، وأحل محلهم قوماً من الفرس استقدمهم من شرقي الإمبراطورية الآشورية ، Frederick p. 81)  - نجيب ميخائيل، ص 155 – يوسف مزهر، ج1 ص 50). ولعل معاوية كان يهدف من وراء هذه الحركة إلى تمييع الشعور القومي عند سكان هذه السواحل الموالين للبيزنطيين حتى لا ينتقضوا مجدداً على المسلمين كما حدث في الإسكندرية في سنة 25 ه/645م (عبد العزيز سالم، تاريخ الإسكندرية، ص 63)، وكما حدث في طرابلس في أول خلافة معاوية

(طرابلس الشام ص 37). مما اضطره إلى اصطناع سياسته السكانية التي أشرنا إليها، أو لعله كان يسعى إلى تمكين الدفاع البري عن السواحل أو لحراسة هذه السواحل من غزوات المردة الذين دفعهم أباطرة بيزنطة على غزو إقليم البقاع والتنغيص على المسلمين في بلاد الشام، ولهذا السبب استقدم جماعات الفرس والأساورة المذكورة وأنزلهم في السواحل، ومنهم الأمراء الإرسلانيون والتنوخيون الذين حكموا بيروت والساحل     ( صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، ص41)، وإن كان هناك من ينسب أعيان التنوخيين والأرسلانيين (ينتسب التنوخيون إلى تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طي ابن تميم بن النعمان بن المنذر ملك الحيرة، والإرسلانيون إلى أرسلان بن مالك بن بركات ابن المنذر التنوخي بن مسعود بن عون بن المنذر المغرور آخر ملوك الحيرة "الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، بيروت 1054 ج1 ص 133" وقد أسهم التنوخيون والأرسلانيون ومن قدم معهم من الجذاميين واللخميين في المعارك التي خاضها العرب في الشام، واشتركوا في فتح دمشق سنة 14 ه / 635م وفي فتوح قيسارية ومصر " الشدياق، ج1 ص 141")  إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، ويُرجعون تاريخ قدومهم من العراق في صحبة خالد بن الوليد إلى سنة 13 ه التي قدم فيها إلى بصرى لنجدة أبي عبيدة بن الجراح ( الشدياق، ج1 ص 140، 266 – محمد عزة دروزة، العرب والعروبة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر الهجري، دمشق 1959، ج1 ص 154). وقد يكون هدف معاوية من إنزال هؤلاء الفرس على السواحل مجرد الرغبة في إعادة تعمير هذه السواحل بسكان جدد بعد أن جلا عنها سكانها الأصليون عقب هزائم البيزنطيين في الشام، فأقطعهم الأخائذ! التي خلت من سكانها، أو مجرد التشجيع على انتقال المسلمين إلى السواحل من كل ناحية بهدف الرباط ومدافعة البيزنطيين. 

   وليس هناك في المصادر العربية ما يؤكد أن معاوية أقام داراً لصناعة الأسطول في صيدا ( ذكر السيد منير خوري أنه ابتنى أسطولاً في صيدا وصور، وهو قول لا يستند على أي سند أو دليل تاريخي)، على الرغم من أن صيدا كانت لها دار صناعتها البحرية في العصر القديم. وتشير النصوص العربية إلى أن معاوية عندما اضطر إلى اصطناع سياسة بحرية مجاراة للبيزنطيين عمل على إنشاء أسطول في دار الصناعة بعكا ( البلاذري، ج1 ص140 – ياقوت، معجم البلدان، مادة عكا)، وهي دار صناعة قديمة كانت قائمة منذ العصر السابق على الفتوحات العربية الإسلامية. ولا نشك في أنه استعان بملاحين من أهل صيدا وصور (غالب الترك، ص 91) في تسيير السفن الإسلامية لسابق خبرتهم ودربتهم في ممارسة البحر، ولم تكن صناعة عكا وحدها كافية لإنتاج أسطول بحري يناهض القوى البحرية البيزنطية التي كان لها التفوق حتى ذلك الحين على المسلمين، ولذلك نراه يرسل أخشاب الأرز من لبنان في السفن إلى الإسكندرية لتصنيعها هناك سفناً. وظلت دار الصناعة في عكا المركز الوحيد في الشام لصناعة السفن إلى أن نقلها الخليفة هشام بن عبد الملك إلى صور، واتخذ بصور فندقاً ومستغلاً (البلاذري، ج1 ص 140). ونخرج من ذلك بأن صيدا لم تكن دار صناعة في العصر الأموي، وإن كنا لا نستبعد قيامها بإنشاء سفن صغيرة وزوارق للصيد.

   وعلى الرغم من أن ذكر صيدا لم يرد كثيراً خلال أحداث تاريخ الدولة الأموية إلا أنه يمكننا أن نستنتج من بعض الأخبار الثانوية التي وردت صدفة في المصادر العربية أن صيدا ازدهرت في العصر الأموي، وكانت مركزاً علمياً هاماً في بلاد الشام، فقد نسب إليها الفقيه العالم المحدث هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي الصيداوي المتوفي سنة 156 ه / 772 م وقد روي عن مكحول ونافع وابن المبارك ووكيع ( ياقوت، معجم البلدان، مادة صيدا، ص438)، والعالم المطران بولس الأنطاكي الذي توفي في صيدا في سنة 154 ه / 770 م ( منير الخوري، ص 135). ونستدل أيضاً من نقش كتابي أثري كشف عنه في صيدا أن الخليفة الأموي مروان بن محمد أمر بإصلاح ميناء صيدا وترميمه في سنة 132 ه، وأن ذلك تم على يدي زياد بن أبي الورد.

(Repertoire Chronologigue d’Epigraphie arabe, t. I, p. 29)

وهذا النص له أهميته الخاصة لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية هامة للسفن التجارية والغازية على السواء. وقد ازداد اهتمام الخلفاء العباسيين بسواحل الشام: فقد اهتم أبو جعفر المنصور بتحصين سواحل الشام كلها بالحصون والمراقب وترميم ما يحتاج منها إلى المرمة، وأتم المهدي ما لم يستكمل في أيام المنصور منها وزاد في شحنها بالجند ( البلاذري، ج1 ص 193). وفي سنة 247 ه /862م  أمر المتوكل على الله بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل ( نفس المصدر، ص 140) وشحنها بالمقاتلة ومن جملتها صيدا بطبيعة الحال، وذلك كإجراء وقائي بعد الغارات البحرية المدمرة التي وجهها البيزنطيون على دمياط في سنة 238 ه / 852م عندما هاجمها أسطول من 300 من الشلنديات في غيبة وإليها بالفسطاط، فدخلوا المدينة ونهبوها، وقتلوا عدداً كبيراً من سكانها، وأحرقوا جامع دمياط وعدة كنائس (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، حوادث سنة 238 – الشيال، المجمل في تاريخ دمياط، الإسكندرية، 1949، ص10 – السيد عبد العزيز سالم ومختار العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، بيروت، 1969 ص 87). ومنذ هذه الغارة ازداد اهتمام المتوكل بأمر الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر

( المقريزي، الخطط المقريزية، طبعة بيروت، 1959 ج1 ص 378).

   ويبدو أن الدولة العباسية كانت تسند ولاية صيدا إلى أفراد من البيت الأرسلاني أو التنوخي أمراء الغرب استمراراً للسياسة التي جرى عليها الأمويون، ففي سنة 257 ه / 871م تولى الأمير النعمان بن عامر الأرسلاني الذي يرتفع نسبه إلى المنذر بن النعمان من ملوك الحيرة مدينة بيروت بالإضافة إلى صيدا وجبلهما بأمر أماجور التركي عامل دمشق وأعمالها من قبل الخليفة العباسي ( الشدياق، أخبار الأعيان، ج2 ص283 – داود خليل كنعان، بيروت في التاريخ، ج1، بيروت 1963 ص 21) المعتمد على الله، ولقبه أمادور بأمير الدولة. وظل الأمير النعمان يتولاها إلى أن توفي أماجور في سنة 264 ه / 879م، فآلت إلى أحمد بن طولون والي مصر. والظاهر أن ابن طولون أقر الأمير النعمان على صيدا وبيروت لما اشتهر به من شجاعة وكياسة وفصاحة وعلم حتى وفاته في 325 ه / 936 م فخلفه عليها ابنه الأمير المنذر ( نفس المرجع، ج2 ص286).

(ج) صيدا في العصرين الطولوني والإخشيدي:

   خضعت صيدا ومدن الساحل للطولونيين بحكم تبعيتها لدمشق، ومن المعروف أن ابن طولون اهتم بتحصين المدن الساحلية، وتشير المصادر العربية إلى أنه أحاط عكا بسور منيع وشد مينائها سلسلة لمنع السفن من اجتيازه ( ياقوت، معجم البلدان، مادة عكا) على مثال السلسلة التي اشتهرت بها المهدية ( السيد عبد العزيز سالم، المغرب الكبير، ج2 : المغرب الإسلامي، الإسكندرية 1966 ص 606) وصور ( المقدسي، أحسن التقاسيم، ص 174)، والسلسلة التي أقامها صلاح الدين خليل بن عرام والي الإسكندرية في سنة 771 ه / 1369 م بعد غزوة القبارصة (تاريخ الإسكندرية وحضارتها، ص 376).

   وفي متحف بيروت قطعة من الحجر نقش عليها بالخط الكوفي نص تاريخي مؤرخ سنة 284 ه يسجل إنشاء بناء لم نستطع تحديد نوعه بسبب الفراغات غير المقروءة في النص، ونطالع في النص المذكور ما يلي: ( أمير المؤمنين أطال الله بقاءه … كيم الله و… لا … بناه وأنفقه … سنة أربع وثمانين ومائتين … وأر…). وفي متحف بيروت أيضاً نقشان كتابيان على قطعتين من الحجر من مدينة صيدا يرجع تاريخهما إلى عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله

arabe, t. II, p. VIII) (Repertoire Chronologique d'Epigraphie

279 – 289 ه ، ولكن ما تبقى عليهما من الكلمات لا يدل على عمل إنشائي بصيدا. ومن الملاحظ أن اسم الأمير الطولوني أبو العساكر جيش لم يذكر في النقش الكتابي الأول، كما أن اسم الأمير الطولوني هارون بن خمارويه لم يذكر  في النصين الآخرين، ويرجع السبب في ذلك إلى خروج الشام عليهما.

   ثم أصبحت بلاد الشام الجنوبية بما فيها دمشق وبعلبك ومدن الساحل: صور وصيدا وبيروت وطرابلس تابعة للبيت التركي الإخشيدي في مصر (Grousset, Histoire des Croisades, Paris 1934,t. I, p. VIII) بعد أن حصل محمد  بن طغج بن جف الإخشيد على تقليد من الخليفة المتقي بالله في سنة 333 ه بولاية مصر والشام وتوريث إمارتها لأبنائه من بعده ( محمد جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي في بلاد الشام والعراق، القاهرة 1959 ص 11)، واستقر الوضع على هذا النحو في عصر الأسرة الإخشيدية، على الرغم من المشاكل التي أثارها الحمدانيون، والتي اقتضت من الإخشيديين أن يدفعوا لهم جزية سنوية (أبو المحاسن بن تغرى بردى، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة 1938 ج3 ص 278، 282).

   وقد ازدهرت صيدا في هذا العصر في المجال العلمي والأدبي، فظهر من علمائها أبو طاهر بن ذكوان البعلبكي المؤدب نزيل صيدا ومحدثها ت 360 ه ( الذهبي، العبر في خبر من غبر، تحقيق الأستاذ فؤاد سيد، الكويت 1961، ج2 ص 318) والحافظ الصيداوي أبو الحسن محمد بن أحمد بن يحيى ابن جميع الغساني 305-406 ه / 917-1011م وكان قد رحل في طلب الحديث إلى مصر والعراق والجزيرة وفارس، وسمع فأكثر السماع، وجمع لنفسه معجماً لشيوخه سماه المسند ( ياقوت، معجم البلدان، مجلد 3، مادة صيداء ص 437 – محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ج2 ص403)، وأبو نصر علي بن الحسين ابن أحمد بن أبي سلمة الوراق الصيداوي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وقد روي عن ابن جميع (نفس المصدر، ص 438)، وأبو عبد الله المحسن بن علي بن كوجك من أهل الأدب ت فيما يقرب من 394 ه، الذي أملى بصيدا حكايات مقطعة بعضها عن ابن خالويه، وكان يعقد الاجتماعات في محرس "غرق" بصيدا ويجلس في قبة نقشت عليها أشعار وأسماء من يحضر جلسته من أصحابه ( ياقوت، معجم الأدباء، طبعة دار المأمون، ج17 ص90).

   ولم تزودنا المصادر العربية بأي مادة تعيننا على تصور الحالة الاقتصادية والعمرانية في صيدا في هذه المرحلة من تاريخها الإسلامي، ولكننا نستنتج من وصف المقدسي البشاري ت 375 ه/ 985م أنها كانت مدينة عامرة حصينة ( المقدسي، ص160 – Marmardji, op. Cit. P. 125)  وإن لم تكن تصل في الحصانة والمنعة إلى ما وصلت إليه مدينة صور التي وصفها ابن حوقل بقوله أنها من " أحصن الحصون التي على شط البحر عامرة خصبة" ( ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، ص 160، ويشير المقدسي إلى أنها " مدينة حصينة على البحر بل فيه، يدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض تدخل فيه المراكب كل ليلة، ثم تجر السلسلة"), كما نستنتج مما أورده المقدسي عن اقتصاديات صور التي كانت تشترك مع صيدا في الإنتاج الزراعي والصناعي بحكم التاريخ المشترك وبحكم الجوار إلى حد أن اسمها اقترن كثيراً باسم صيدا، أن الصناعات التي عددها المقدسي كانت لها نظائر في صيدا، كالسكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات ( المقدسي، ص180). أما السكر فلأن ناصر خسرو الذي زار صيدا في سنة 1047 م يؤكد توافر قصب السكر بها ( ناصر خسرو، ص 20 Le Strange, op. Cit. P. 346)، وأما الزجاج فلأن صناعته من التقاليد الشعبية المحلية التي ارتبطت باسم صيدا في التاريخ القديم والوسيط.