العصور التي مرت على صيدا

2- العصر الفاطمي: أزهى عصور صيدا الإسلامية

( أ ) موقف صيدا من الأحداث السياسية في الشام بعد الفتح الفاطمي.

(ب) صيدا بين شِقّي رحى.

(ج) إستقرار الأوضاع في صيدا في عصر العزيز بالله والحاكم بأمر الله.

(د) إضطراب الأحوال في صيدا من 415 ه إلى 504 م.

(ه) إزدهار صيدا في العصر الفاطمي.


العصر الفاطمي: أزهى عصور صيدا الإسلامية

(أ) موقف صيدا من الأحداث السياسية في الشام بعد الفتح الفاطمي:

   لم يمض عام واحد على دخول القائد جوهر مصر فاتحاً حتى سير حملة إلى بلاد الشام في أواخر سنة 359 ه بقيادة القائد بن عبد الله بن طغج ( المقريزي، الخطط، ج2 ص 203 ) وأسره وبعض قواده وسيرهم إلى المعز الفاطمي بأفريقية (ابن الأثير، الكامل، ج 8 ص 591)، وفي الثانية على فاتك غلام ابن ملهم ( جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي، ص18). وقد أقر جعفر بعد دخوله دمشق على إقليم الغرب بما فيه طرابلس وبيروت وصيدا الأمير سيف الدولة المنذر ابن أمير الدولة النعمان بن عامر التنوخي الذي قدم ولاءه للفاطميين ( الشدياق، أخبار الأعيان، ج2 ص286)، ولكن سيف الدولة المنذر لم يطل به العهد أميراً على صيدا من قبل الفاطميين، إذ لم يلبث أن توفي في سنة 362 ه /970م بعد عامين فقط من توليه الإمارة، فخلفه ابنه تميم الملقب بعز الدولة.

   وكان أهل دمشق قد ثاروا على عسكر جعفر بن فلاح لعبثهم بالنظام وانتهاكهم حرمة بيوتهم بالإضافة إلى مشاعر الكراهية التي كان يحفظها لهم أهل دمشق باعتبارهم سنيين، ثم تمكن أبو محمد بن عصودا وظالم بن موهوب العقيلي والي حوران من قبل الإخشيديين من الفرار من دمشق ومضيا إلى القرامطة في الأحساء يدعوانهم لنصرتهم

 ( المقريزي، اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا، ج1 نشر الدكتور الشيال، 1948 ص 176). ولم يتردد القرامطة في إجابتهما خاصة وقد انقطعت الإتاوة التي كان يدفعها الإخشيديون لهم، وبادر زعيم القرامطة بالاتصال بعز الدولة بختيار طالباً منه المساعدة بالمال والسلاح، فأجابه إلى طلبه،ومضى إلى دمشق في حشد كبير من القرامطة، وتضامن أهل دمشق مع بني عقيل وبني طيء والقرامطة ضد الفاطميين، ونجح المتحالفون في إيقاع الهزيمة بهم في وقعة الدكة التي لقي فيها جعفر بن فلاح مصرعه (ابن تغري بردى، النجوم الزاهرة، ج4 ص 74)، وتولى على دمشق ظالم بن موهوب ( نفس المصدر، ج4 ص58). ثم زحف القرامطة إلى الرملة فاستولوا عليها، كما استولوا على المناطق الواقعة بينها وبين دمشق ( ابن الأثير، ج8 ص615)، وبعد أن حقق أبو محمد الحسن القرمطي ما حققه من انتصارات عاد إلى بلاد هجر . وعلى الرغم من انحسار نفوذ الفاطميين عن الشام نتيجة للهزيمة التي أوقها القرامطة بهم فقد ظلت صيدا على ولائها للفاطميين لانعزالها عن مدن الداخل،وكان يتولاها وقتئذ من قبل المعز الفاطمي وال يقال له أبو الفتح بن الشيخ لعله من سلالة عيسى بن شيخ الربعي " لعله ينتسب إلى عيسى بن شيخ بن الشليل الربعي عامل فلسطين من قبل الخليفة العباسي المستعين، ثم خرج على المعتز وحاربه أماجور التركي عامل دمشق، فهزمه أماجور، فانتقل ابن شيخ إلى صور في سنة 255 ه، ثم تغلب ابن شيخ على فلسطين، واضطر الخليفة المعتمد العباسي إلى الصفح عما سلف منه وولاه أرمينية في سنة 257 ه بعد أن سلم ما بيده في فلسطين إلى أماجور التركي" ( اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، طبعة صادر ج2 ص 500 – 508)، ثم تمكن الجيش الفاطمي بقيادة أبي محمود بن إبراهيم بن جعفر بن فلاح من استرجاع دمشق وأعمالها في سنة 363 ه وأقام عليها القائد ظالم بن موهوب العقيلي والياً (ابن الأثير،ج8 ص 640).

   ثم تغير الموقف في الشام بعد ظهور أبي منصور التركي المعروف بأفتكين " هو افتكين أو هفتكين أو الفتكين أبو منصور التركي المعزي ت 368 ه وكان غلاماً لمعز الدولة أحمد بن بويه وترقى في الخدمة حتى غلب على بغداد عند عز الدولة بختيار بن معز الدولة، ثم خرج من بغداد قاصداً الشام مع فرقة من جنده عدتها 300 فارس عقب انهزامه في معركة وقعت بين الأتراك والديلم، وأمده سعد الدولة أبو المعالي بن سيف الدولة الحمداني صاحب حلب بفرقة من العسكر، وعزم على دخول دمشق، فاضطر ظالم بن موهوب إلى الخروج إلى بعلبك لمصادمته ومنعه من التقدم. وفي هذه الأثناء شغل عسكر دمشق الفاطميون بلقاء البيزنطيين الذين قدموا إلى طرابلس، فتمكن أفتكين من دخول دمشق من غير حرب في شعبان سنة 364 ه" ( المقريزي، الخطط، ج2 ص413 – جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي، ص 38 - 40)  على مسرح الأحداث في سنة 364، وأعاد الدعوة العباسية إلى دمشق، ولم يكتف أفتكين بذلك بل عزم على أن يبسط نفوذه على سهل البقاع ومدن الساحل، فزحف نحو بعلبك لمحاربة ظالم ابن موهوب، ونجح في إنزال الهزيمة به، وفر ظالم واختبأ عند الأمير تميم بن المنذر بن النعمان الأرسلاني، وكتب إلى المعز يخبره بجلية الأمر، فأمره المعز بالإقامة في صيدا

( الشدياق، ج2 ص 287) التي كانت ما تزال تابعة للفاطميين، أما أفتكين فتمكن من دخول بعلبك. وحدث أن استغل الإمبراطور البيزنطي حنا تزيمسكس (ابن الشمشيق) فرصة النزاع القائم في الشام بين الفاطميين وبين الأتراك والقرامطة للشروع في غزوة صليبية واسعة النطاق ضد المسلمين في الشام هدفها فتح بيت المقدس، فخرج في365 ه / 975م إلى الثغور فاستولى على أكثرها، ثم زحف من أنطاكية إلى حمص فافتتحها ثم استولى على بعلبك وانتهبها، وانتشر جيشه في إقليم البقاع ينهب ويأسر ويحرق، واتجه بعد ذلك إلى دمشق، فاضطر أفتكين إلى الدخول في طاعته وأعلن له الولاء، وجبي من أهل دمشق ثلاثين ألف دينار قهراً حملها إلى الإمبراطور البيزنطي (المقريزي، الخطط، ج2 ص 413)، وتعهد له بدفع مائة ألف درهم. ولكن تزيمسكس _ وقد أعجبه منه إخلاصه وولاءه _ أعفاه من هذا المال ( ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، بيروت 1908 ص 12). وزحف الإمبراطور البيزنطي إلى الجنوب ماراً بطبرية حيث قدم إليه أهلها الهدايا ومبلغاً من المال، ثم مضى إلى الناصرة فبيسان فعكا وقيسارية، ثم ارتد منها إلى الشمال نحو بيروت بعد أن عدل عن التوجه إلى بيت المقدس لسبب لا نعرفه، وعاد فانحدر جنوباً إلى صيدا ( ذكر تزيمسكس في رسالته التي أوردها المؤرخ الأرميني متى الرهوي إلى الملك أشوط الثالث ملك أرمينية أنه _ أي _ تزيمسكس _ رحل بعد صيدا إلى جبيل وطرابلس وجبلة وبلنياس وصهيون وبرزويه ، راجع: عمر كمال توفيق، مقدمات العدوان الصليبي على الشرق العربي: الإمبراطور حنا تزيمسكس وسياسته الشرقية، الإسكندرية، 1967، ملحق 1 ص 183).  وقد أتاح تزيمسكس بهذه التحركات الفرصة لأفتكين في دمشق لكي يقيم بها الدعوة للخليفة العباسي الطائع أبي عبد الكريم بن المطيع. أما تزيمسكس فقد بدأ بمنازلة صيدا ومحاصرتها، فخرج إليه أبو الفتح بن الشيخ في وفد من شيوخ البلد لطلب الصلح، فهاداه ابن الشيخ وهادنه على مال، ويعبر ابن القلانسي عن ذلك بقوله: " وسار ابن الشمشيق على طريق الساحل فنزل على صيدا، وخرج إليه أبو الفتح بن الشيخ، وكان رجلاً جليل القدر، ومعه شيوخ البلد ولقوه، وقرروا معه أمرهم على مال أعطوه إياه، وهدية حملوها إليه، وانصرف عنهم على سلم وموادعة وانتقل إلى ثغر بيروت" ( ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص14 _ محمد جمال الدين سرور، دراسات في العلاقات السياسية بين دول الشرق الإسلامي والدولة البيزنطية في العصور الوسطى، القاهرة 1960 ص31 _ عمر كمال، المرجع السابق، ص165 _ طرابلس الشام، ص 55، 56). وورد في كتاب حنا تزيمسكس إلى آشوط الثالث ملك أرمينية السبب الذي دعاه إلى موادعة أهل صيدا فيقول: " إن هؤلاء الشيوخ أقبلوا متوسلين لجلالتنا وملتمسين أن يصيروا رعايانا وعبيدنا الخاضعين على الدوام، وإزاء هذه التأكيدات ارتضينا الاستجابة لرجائهم وتحقيق رغباتهم، وحتمنا عليهم دفع جزية، وفرضنا عليهم حكاماً. ( عمر كمال، العدوان الصليبي، ملحق رقم 1 ص 183 Grousset, H. des croisades, t. I, p. XIX) .

(ب) صيدا بين شقي رحى:

   بعد أن تمكن أفتكين من السيطرة على دمشق، وأقام بها الدعوة للخليفة العباسي الطائع بن المطيع العباسي خاف أن يدخل في حرب سافرة مع الفاطميين في مصر، إذ لم تكن لديه طاقة بمحاربتهم، دون أن يعتمد على قوة تنصره ودعم يقويه ويحقق أغراضه ومراميه. فكاتب القرامطة في الإحساء يستدعيهم لنجدته والانضمام إليه عند قيامه بمحاربة عسكر المعز، فاستجاب له القرامطة، ووافاه منهم اسحق وكسرى وجعفر ( ابن القلانسى، ص15) من كبار قادتهم، فنزلوا على ظاهر دمشق، ووافى معهم عدد كبير من العجم، وطائفة من أنصار أفتكين كانوا قد تشردوا في البلاد وتشتتوا فتقوى بهم، وأكرمهم، وأحسن وفادتهم. فأقاموا بدمشق أياماً، ثم زحفوا نحو الرملة حيث كانت تعسكر قوات أبي محمود إبراهيم بن جعفر بن فلاح أمير دمشق السابق، ولكن أبا محمود عجل بالانسحاب إلى يافا، وتحصن في أسوارها عندما بلغه نبأ مسيرهم نحوه وقصدهم لمحاربته. وعلى أثر ذلك نزلت قوات القرامطة في الرملة، وتأهبوا لمقاتلة الفاطميين المتحصنين في ياقا ( ابن القلانسي، ص 15 – المقريزي، الخطط، ص 413). وعندئذ واتت أفتكين الفرصة لتحقيق هدفه في السيطرة على نفسه من ناحية مصر، بسبب وفاة الخليقة المعز واستخلاف ولده العزيز بالله من بعده، ومن ناحية الرملة بسبب جلاء قوات الفاطميين عنها وانسحابهم إلى يافا. فخرج في حشد من أتباعه ومن انضم إليه ونزل على صيدا، وكان يتولاها وقتئذ "ابن الشيخ" (نفس المصدر)ومعه رؤوس من المغاربة وفيهم ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان قد صرف من ولاية دمشق بعد انهزامه على أيدي القرامطة في سنة 363 ه، فخرج إليه (أي إلى أفتكين) الوالي ابن الشيخ وحامية صيدا، وكان عسكرها يفوقون عسكر افتكين من حيث الكثرة العددية، فطمعوا في التغلب على أفتكين وقواته، فتظاهر أفتكين بالانهزام، واستدرجهم لمطاردته حتى نزل على نهر، وخرجت جموع كثيفة من أهل صيدا وراء حامية المدينة، فأمر أفتكين قواته الأتراك باتخاذ طريق بانياس، فتبعهم أهل صيدا والحامية الفاطمية، وعندئذ كر عليهم الأتراك، وأقبلوا عليهم باللتوت  (اللتوت أي الدبابيس أو الأعمدة ذات الرؤوس المستطيلة المضرسة "عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، ص 65") "وداسوهم بالخيل عليها التجافيف" ( ابن القلانسي، ص15 – المقريزي، المصدر السابق). (والتجافيف مفردها تجفاف وهي كسوات من النسيج محشوة تبطن بها جواشن الفرسان والخيول : Dozy, Supplement aux dictionnaires arabes, t. I, Beirut, 1968, p. 200  أو دروع توضع على أجسام الخيل : عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، القاهرة 1963، صفحة 67). فانهزم أهل صيدا والحامية الفاطمية، وأخذتهم سيوف الأتراك ففتكت بهم، وفر ظالم بن موهوب إلى الأمير تميم وقيل إلى بلدة صور ( كان الأمير تميم الأرسلاني موالياً للفاطميين في مصر)، وأحصي عدد القتلى من أهل صيدا وعسكر الفاطميين فبلغ أربعة آلاف قتيل ( ابن القلانسي، ص15 – ابن الأثير، ج8 ص 657 . ويذكر المقريزي أن هذا العدد يشمل قتلى الفريقين، الخطط، ج 2 ص 413 )، ثم أمر أفتكين بقطع أيدي القتلى من عسكر الفاطميين وسيرها إلى دمشق حيث طيف بها.

   ثم ترك أفتكين صيدا ورحل إلى عكا بقصد الاستيلاء عليها، وأغار على طرية وقتل من أهلها ونهب مثلما فعل في صيدا ( ابن الأثير، ج8 ص657). وعندئذ سير العزيز بالله القائد جوهر في عسكر كثيف لقتال أفتكين والقرامطة، فعندما بلغ القرامطة وهم في الرملة نبأ وصول جوهر ومسيره إلى أفتكين وهو يحاصر عكا، انسحبوا من الرملة، فنزلها جوهر. أما القرامطة فقد رحل مر المرتقب، وتحصن بها. فنزل جوهر على ظاهر دمشق في 8 ذي القعدة سنة 365 ه، ولم تلبث قوات جوهر أن اشتبكت مع قوات أفتكين، وجرت معارك امتدت نحو شهرين إلى 11 من ربيع الأول سنة 366 ه، استنجد خلالها بالقرامطة، وبدت له ملامح الهزيمة، فهم بالفرار في الوقت الذي وردت إليه الأنباء بقدوم الحسن بن أحمد القرمطي، زعينم القرامطة، إلى دمشق. وبوصول القرامطة تبدل الوضع وانقلب رأساً على عقب، وأصبح جوهر وقواته محورين بي الأتراك والقرامطة، فطلب الصلح على أساس أن يرحل من دمشق دون أن يقوم القرامطة بمطاردته، إذ أدرك صعوبة المواجهة بسبب قلة أمواله، وهلاك عدد كبير من عسكره في المعارك التي خاضها ضد أفتكين. فمضى جوهر إلى  طبرية، ثم اضطر إلى الرحيل عنها إلى الرملة عندما بلغه قدوم القرامطة وأفتكين في أثره في خمسين ألف فارس وراجل ( ابن الأثير، ج 8 ص 658)، ثم تراجع جوهر من الرملة إلى عسقلان، حيث تحصن داخل أسوارها، وتبعته حشود القرامطة والأتراك وأحكمت عليه الحصار. ولما قلت لديه الميرة وعدمت الأقوات واشتد عليه الأمر كتب إلى أفتكين يفاوضه في الصلح وحقن الدماء واتفق معه على أن يرحل من هناك إلى مصر، وفي نفس الوقت أبحر الأمير تميم الأرسلاني متولي الغرب ومعه ظالم بن موهوب من بيروت إلى مصر.

   ورأى العزيز بالله بعد عودة جوهر أن يخرج بنفسه على رأس جيش ضخم لاستعادة النفوذ الفاطمي على الشام، فأعد جيشاً ضخماً زحف به إلى الشام، فنزل بظاهر الرملة، واشتبك مع أفتكين والقرامطة في معركة عنيفة وقعت في المحرم سنة 367 ه/977م ( ابن القلانسي، ص19 – ابن الأثير، ج8 ص 660 – المقريزي، الخطط، ج2 ص 414)، وانتهت بانتصار الفاطميين ووقوع أفتكين في أسرهم، واشترك في هذه الوقعة المشهورة الأمير تميم الأرسلاني مع الجيوش الفاطمية وأبدى من الشجاعة وضروب البسالة والإقدام ما جعل العزيز بالله يكافأه بإسناد إمارة الغرب وبيروت وجبلها إليه (الشدياق، ج2 ص 288)، وهكذا استعاد الفاطميون دمشق ومدنها الساحلية.

( ج ) استقرار الأوضاع في صيدا في عصر العزيز بالله:

   أصبحت صيدا تابعة للخلافة الفاطمية في مصر، وتولاها من قبل الخليفة العزيز والٍ لم يرد إلينا اسمه في المصادر العربية، ولكننا نرجّح أن يكون من الأمراء الأرسلانيين الذين اشتركوا مع العزيز بالله في إنزال الهزيمة بجيش أفتكين في موقعة الرملة، فقد ذكر الشيخ طنوس الشدياق أن الخليفة العزيز أعجب بشجاعته، فلما عزم الخليفة على الإياب إلى مصر منحه توقيعاً بإمارة الغرب وبيروت ( الشدياق، ج2 ص 288).

   وحاول العزيز بالله منذ سنة 373 ه انتزاع حلب من صاحبها سعد الدولة الحمداني عن طريق بكجور التركي غلام سعيد الدولة في مقابل توليه إمارة دمشق، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب هزيمة بكجور ومصرعه في سنة 381 ه. وفي عهد سعيد الدولة أبي الفضائل الذي خلف أباه سعد الدولة الحمداني في سنة 381، عاود الفاطميون محاولتهم فتح حلب، فأسند الخليفة العزيز بالله ولاية الشام إلى منجوتكين التركي، وأمره بمحاربة الحمدانيين (راجع التفاصيل في ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج4 ص117 وما يليها)، فكتب منجوتكين إلى الأمير تميم الأرسلاني يدعوه إلى الانضمام إليه، فتقاعس تميم عن نصرته، في حين بادر الأمير ناصر الدولة منصور بن الأمير فخر الدولة درويش الإرسلاني بالاشتراك مع إخوته في حملة منجوتكين، فكافأه هذا الأخير بأن ولاه جبل الغرب وبيروت، وأسند ولاية صيدا إلى أخيه الأمير مذحج، وولاية صور إلى ابن عمه الأمير هارون (الشدياق، ج2 ص288 – إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان، ص173). فأناب الأمير منصور أخاه مذحجاً على ولاية الغرب وبيروت بالإضافة إلى صيدا، وهكذا آلت ولاية صيدا إلى الأمير مذحج الإرسلاني في الفترة ما بين عامي 383،386 ه / 993 – 996م. ثم أسندت ولاية صيدا من بعده إلى الأمير غالب بن مسعود بن المنذر الإرسلاني من قبل منجوتكين ( نفسه، ج2 ص289)، ويبدو أنه لم يرض عنه بعد ذلك، فصرفه عن ولايتها في العام التالي، وأسندها إلى أبي الفتح بن الشيخ والي صيدا السابق، وذلك في سنة 387 ه / 997م.

   واتفق أن ثار أهالي صور في هذه السنة على الحاكم بأمر الله وولوا عليهم ملاحاً من البحريين يعرف بالعلاقة، فوثب العلاقة ورفاقه على الحامية الفاطمية في صور وقتلهم، ثم استقل بالمدينة، فندب برجوان الخادم القائد أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة الحمداني، وياقوت الخادم، وطائفة من عبيد الشرا في جيش لمهاجمة صور من البر، واستنزال الثوار، وسيّر في البحر عشرين مركباً حربية مشحونة بالرجال والعدد إلى ثغر صيدا لمحاصرته بحراً، كما كتب إلى علي بن حيدرة والي طرابلس وابن شيخ والي صيدا بالمسير إلى صور في أسطوليهما، واحتشدت قوات كثيفة من قوى الفاطميين على باب صور، وحاصرتها الأساطيل من البحر فاستنجد العلاقة بالإمبراطور البيزنطي بسيل الثاني، فأنفذ إليه بسيل أسطولاً مشحوناً بالمقاتلة، واشتبك هذا الأسطول مع الأسطول الفاطمي في معركة بحرية عنيفة دارت في مياه صور، وانتهت بهزيمة الأسطول البيزنطي، وتمكن المسلمون من الاستيلاء على إحدى سفنه، وقتلوا ملاحيها وعدتهم 150 رجلاً، وانهزمت سائر السفن البيزنطية. ثم افتتح الفاطميون المدينة عنوة، وقبضوا على العلاقة وجماعة من أنصاره، فحملوا إلى مصر، حيث سلخ حياً، وصلب، وقتل أصحابه صبرا (ابن القلانسي، ص50، 51 –إبن شداد، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق الدكتور سامي الدهان، دمشق 1962 ، ج2 ص  166،164 – طرابلس الشام، ص 59). ونستنتج من ذلك أن الأوضاع في صيدا استقرت تماماً منذ خلافة العزيز بالله بدليل أن واليها لم يتردد في إطاعة الأوامر الصادرة إليه من دار الخلافة بالقاهرة، بالاشتراك مع القوى الفاطمية البحرية والبرية في استنزال العلاقة، كما نستنتج أن صيدا كان لها أسطولها الخاص، بدليل اشتراكه في الحصار البحري الذي فرضه الفاطميون على صور.

   وتصمت المصادر العربية عن إمدادنا بأي مادة تاريخية عن صيدا في الفترة الواقعة ما بين حركة العلاقة التي حدثت سنة 387 ه وقيام الحاكم بأمر الله بإقطاع صور وصيدا وبيروت للفتح القلعي (ابن الأثير، ج9 ص230 – صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، ص15)، مولى مرتضى الدولة أبي نصر منصور بن لؤلؤ صاحب حلب عوضاً عن حلب في سنة 405 ه، ونميل إلى الاعتقاد بأن ابن شيخ ظل يتولى إمارتها في هذه المرحلة.

   ثم أسند الفتح القلعي الذي لقبه الحاكم بأمر الله بلقب مبارك الدولة وسعدها ولاية صيدا وصور وبيروت في سنة 406 ه لمرتضى الدولة بعد أن أخرجه من حلب، وسلمها لسديد الدولة أبي الحسن علي في رجب سنة 406 ه. وظل مرتضى الدولة يقوم بشؤون صيدا إلى أن توفي في مصر في سنة 408 ه ( إبن شداد، المصدر السابق، ج2 قسم 2 ص 101 ، 102). غير أن ابن العديم الحلبي يذكر أن مرهف الدولة بحكم التركي كان والياً على صيدا في سنة 407 ه ( ابن العديم الحلبي، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق الدكتور سامي الدهان، ج1 دمشق، 1951، ص 215)، الأمر الذي يدعونا إلى الاعتقاد بأن مرتضى الدولة لم يستمر في ولايتها أكثر من عام واحد ثم رحل إلى مصر حيث توفي في سنة 408 ه.

( د ) اضطراب الأحوال في صيدا من 415 إلى 504 ه:

   ظلت صيدا تنعم باستقرار نسبي فترة قصيرة الأمد استمرت حتى سنة 415 ه/ 1024 م، وفي هذه السنة اضطربت أحوال الشام على أثر وفاة الحاكم بأمر الله ت 411 ه، وقامت فيها الحركات الانفصالية في شمال البلاد وجنوبها،وتآمر المنتزون لإزالة النفوذ الفاطمي كله من بلاد الشام: فبنو الجراح الطائيين بفلسطين، الذين كانوا قد فقدوا سلطانهم على هذا الإقليم في سنة 404 ه حاولوا استرداد نفوذهم القديم في ظل زعيمهم حسان بن مفرج بن الجراح وذلك في خلافة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي، وتمكنوا من الاستيلاء على الرملة وعلى أكثر فلسطين،/ وبنو مرداس الكلابيين نجحوا في إمارة زعيمهم أسد الدولة صالح بن مرداس في التغلب على حلب في سنة 414 ه وانتزعوها من واليها ابن ثعبان الذي كان يتولاها من قبل الظاهر الفاطمي (ابن الأثير، ج9 ص230 – النجوم الزاهرة، ج4 ص 248 – محمد جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي، ص 44 – 58). ثم عقد ابن مرداس في سنة 414 ه اتفاقاً مع حسان بن الجراح، وسنان بن عليان أمير الكلبيين، بمقتضاه يتضامن الحلفاء الثلاثة فيما بينهم ويتماسكوا لإخراج الفاطميين من الشام (يحيى بن سعيد الأنطاكي، صلة كتاب سعيد بن بطريق، نشره الأب لويس شيخو، بيروت 1909، ج2 ص244 – ابن الأثير، ج9 ص230)، واقتسامها فيما بينهم (ابن القلانسي، ص73 – النجوم الزاهرة، ج4 ص252). وذكر ابن العديم الحلبي أن صالح استولى على حمص وبعلبك وصيدا وحصن ابن عكار بناحية طرابلس في سنة 416 ه ( ابن العديم، زبدة الحلب، ج1، ص230) بالإضافة إلى الرحبة ومنبج وبالس ورفنية ( يحيى بن سعيد، ص248 – ابن العديم، ص230)، وفي العام التالي توجه صالح إلى صيدا ( ابن العديم، ج1 ص233). وفي سنة 420 ه / 1029 م استولى صالح بن مرداس وحسان بن الجراح على أعمال الشام، وانتهيا إلى غزة، فجهز الظاهر لحربهما جيشاً بقيادة أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري التركي (هو الأمير المظفر أمير الجيوش أبو منصور أنوشتكين التزبري أو الدزبري التركي، ولد في بلاد ما وراء النهر في بلدة بختل، وسبي منه وحمل إلى كاشغر، ثم هرب إلى بخارى، واشتراه أحد الأعيان، ثم حمل إلى بغداد، ومنها نقل إلى دمشق في سنة 400 ه، فاشتراه القائد تزبر بن أونيم الديلمي، وندبه تزبر لحماية أملاكه والدفاع عنها، فأدى عمله على خير وجه، وعرف بصرامته، وشاع ذكره، وسئل مولاه أن يهديه إلى الخليفة الحاكم، وقيل بل أمر بحمله إلى الخليفة، فحمل في جملة غلمانه في سنة 403 ه. ولكنه اصطدم مع الغلمان الآخرين وقهرهم، فأخرج من الحجرة في سنة 405 ه ولزم الخدمة، فحظي برضى الحاكم، فقوده مع سديد الدولة الضيف في الحملة التي سيرها الحاكم إلى الشام في سنة 406 ه ودخل دمشق. ثم عاد إلى مصر، ثم نصب والياً على بعلبك، فذاع أمره، وصادق ولاة الأطراف، واتصل بوالي حلب وهاداه، ولقب بلقب منتخب الدولة، ثم نقل إلى ولاية قيسارية، ثم أسندت إليه ولاية فلسطين كلها في سنة 414 ه، واختاره الوزير الجرجرائي ليقود حملة إلى الشام إليه ولاية فلسطين كلها في سنة 414 ه، واختاره الوزير الجرجرائي ليقود حملة إلى الشام للقضاء على الفتن التي سببها انتزاء بني جراح وبني مرداس، ولقب بالأمير المظفر منتخب الدولة. ولما انتصر على صالح بن مرداس في الأقحوانة وهي الموقعة التي قتل فيها صالح وولده الأصغر نزل بدمشق. أما نصر بن صالح فقد نجح في السيطرة على حلب وتلقب بشبل الدولة، وظل يحكم حلب حتى خلافة المستنصر. ثم زحف أنوشتكين على حلب في سنة 429 والتقى بنصر بن صالح عند حماة، فانهزم نصر وقتل، وتقلد أنوشتكين ولاية حلب، وظل يتولاها حتى توفي في سنة 433 " ابن القلانسي، ص71-79، ابن الأثير ج9 ص 231") ، فالتقى معهما في معركة دارت بالأقحوانة قريباً من طبرية، انهزم فيها عسكر البيزنطية، القاهرة 1965، ص 777) ونزل الدزبري على دمشق ( ابن القلانسي، ص73). أما جثة صالح فقد أرسلت إلى صيدا حيث صلبت على بابها بينما سيق رأسه إلى القاهرة ( نفس المصدر، ص 74).

   وظلت صيدا تابعة للفاطميين فترة طويلة دامت حتى سنة 433 ه التي توفي فيها أنوشتكين الدزبري، فلما توفي فسد النظام في بلاد الشام، واضطربت أحوال البلاد، وعاد العرب إلى العيث في نواحيها بقصد استرجاع نفوذهم، فظهر معز الدولة ثمال أخو شبل الدولة صالح، وكان مقيماً في الرحبة منذ هزيمة أخيه ومقتله، وحاصر حلب وتمكن من الاستيلاء عليها ( ابن الأثير، ج9 ص502)، كما ظهر حسان بن المفرج بن الجراح بفلسطين وأعلن فيها الثورة على الفاطميين، وظل معز الدولة ثمال المرداسي يحكم حلب حتى سنة 443 ه عندما سئم من مدافعة الفاطميين المرة بعد الأخرى، فتنازل عنها في هذه السنة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وفي مقابل ذلك أقامه المستنصر والياً على بيروت وجبيل وعكا. أما صيدا فقد كانت بمنأى عن هذه الفتن، وكانت تتبع إمارة دمشق التي تناوب الحكم فيها عدد كبير من الأمراء والقواد يصل إلى 14 والياً من سنة 433 ه إلى 462 ه لم تشهد خلالها البلاد أي نوع من الاستقرار، وفي هذه المرحلة استجد النزاع بين الفاطميين وبين محمود بن نصر بن صالح المرداسي المعروف بابن الروقلية الذي تملك حلب بعد أن انتصر على عسكر ناصر الدولة بن حمدان في موقعة الفنيدق في سنة 452 ه (ابن الأثير، ج10 ص12 . وذكر ابن القلانسي أنه تغلب عليها بعد محاولات ثلاث في سنة 457 ص 937)، واستقل بنو عمار بطرابلس في سنة 462 ه ( ابن القلانسي، ص112 – طرابلس الشام، ص66)، واستقل القاضي عين الدولة أبو الحسن محمد بن عبد الله بن أبي عقيل بصور في سنة 461 ه ( نفس المصدر، ص98 – ابن الأثير، ج 10 ص 60)، وابن حمدان بالرملة والساحل ( نفس المصدر، ص96، حاشية 1). واضطربت الأحوال في دمشق منذ سنة 455 ه، واستولى عليها القفي مختص بن أبي الجن أخو حيدرة بن منزو في سنة 462 ه، وطرد نواب أمير الجيوش بدر الجمالي وأعلن استقلاله بها ( نفس المصدر، ص96 – طرابلس الشام، ص66).

   وهكذا تقلص ظل الخلافة الفاطمية في الشام، ولم يبق لأمير الجيوش بدر الجمالي الوفي للفاطميين (هو أبو النجم بدر الجمالي، كان مملوكاً أرمينياً لجمال الدولة بن عمار، فعرف لذلك بالجمالي، وأخذ يتنقل في الخدمة حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر في 13 ربيع الآخر سنة 455، ثم فر منها في 14 رجب سنة 456، ثم وليها ثانية في 6 شعبان سنة 458، وخرج منها بعد أن بلغه مقتل ابنه في عسقلان في سنة 460، وتقلد ولاية عكا. "راجع المقريزي، الخطط، ج2 ص208" ) سوى عكا وصيدا (ابن القلانسي، ص97 ). أما صيدا فلم تسلم من هذه الفتن والاضطرابات، حقيقي أنها ظلت وفية للدولة الفاطمية، مرتبطة بولائها لها، ولكن العواصف والأنواء لم تلبث أن عصفت بها وهزتها هزاً شديداً. وكان بدر الجمالي قد أرسل ثقله وأهله إلى صيدا واستقر بها ( ابن القلانسي، ص96، حاشية1 )، وسعى إلى انتزاع صور من قاضيها عين الدولة بن أبي عقيل المتغلب عليها، فسار في العساكر المصرية وحاصرها، وضايق أهلها وأضر بهم، فكاتب القاضي ابن أبي عقيل " الأمير قرلو مقدم الأتراك بالشام مستصرخاً له ومستنجداً به، فأجابه إلى طلبه، وأسعفه بأربه، وسار بعسكره منجداً له ومساعداً، ووصل إلى ثغر صيدا، ونزل عليه في ستة آلاف فارس فحصره وضيق عليه وعلى من فيه، وكان في جملة ولاية أمير الجيوش المذكور" (ابن القلانسي، ص98. وذكر ابن الأثير أن قرلو قدم في 12 ألفاً )، ويبدو أن قرلو كان يهدف من وراء حصاره لصيدا أن يرغم بدر الجمالي على رفع الحصار عن صور، ونجح في خطته، فعندما بلغ بدر الجمالي قدوم قرلو إلى صيدا وشروعه في حصارها، أرغم على الرحيل عن صور مؤقتاً، وهو ينوي العودة إليها بعد أن يرحل قرلو عن صيدا، فما كاد قرلو يعود أدراجه هو وقواته الأتراك حتى عاد بدر إلى صور وأحكم الحصار حولها براً وبحراً لمدة عام حتى غلت فيها الأسعار لنفاذ الأقوات، ووصل ثمن رطل الخبز إلى نصف دينار، ولكنها صمدت كما كانت تصمد دائماً في كل مرة يحاصرها الغزاة والفاتحون، فاضطر بدر إلى رفع الحصار عنها (المصدر نفسه، ص98 – ابن الأثير، ج10، ص60 ).

   وفي هذه الفترة الحرجة في تاريخ صيدا ظهر الأتراك السلاجقة على مسرح أحداث الشام، وشجع على تدخلهم الفوضى المستحكمة في البلاد الشامية وضعف الدولة الفاطمية بسبب استبداد ناصر الدولة الحسين ابن الحسين بن حمدان بأمور المستنصر، ونزاعه مع أسد الدولة الدكز مقدم الأتراك وشيخهم،ونشوب المعارك في القاهرة بين العرب والأتراك، كل ذلك مع عظم الغلاء، وقلة الأقوات، وانتشار المجاعة في البلاد، وانقطاع الطرقات في البر والبحر إلا بالحراسة الشديدة. وانفسح المجال أمام السلاجقة للتدخل السافر عندما استدعي الخليفة المستنصر أمير الجيوش بدر الجمالي في سنة 466 ه /1074م بعد أن أقدم الدكز على قتل ابن حمدان في سنة 465 وتتبع أقاربه وذويه بالقتل واستبد بدوره (ابن الأثير، ج 10 ص87 – المقريزي، اتعاظ الحنفا "مخطوطة" ورقة 101 أ، 106 ب- المقريزي، الخطط، ج2 ص208 – النجوم الزاهرة، ج5 ص20 ). وبينما شغل بدر الجمالي في مصر بإصلاح ما أفسدته الفتن في البلاد، فيقبض على الدكز ويقتله في سنة  467 ه، ويحاصر الاسكندر "مخطوطة" ورقة 107 ب )، كان السلاجقة يمكنون نفوذهم في بلاد الشام: ففي سنة 463 أعلن محمود بن صالح المرداسي أمير حلب ولاءه للسلاجقة واستجاب لطلب السلطان السلجوقي ألب أرسلان فأقام الدعوة للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة الفاطمي، واستولى أتسز التركماني(هو القائد أتسز بن أوق مقدم الأتراك الغز في الشام، وقيل أتسز بن أبق، أحد أتباع السلطان ألب أرسلان ) مقدم الأتراك لحسابه الخاص على الرملة وبيت المقدس، وشن الغارات على دمشق وأعمالها وقطع عنها الميرة، ومنع عنها غلاتها عدة سنين حتى اضطرب أمرها، وقلت الأقوات فيها، وجلا أكثر أهلها عنها، واضطر من بقي فيها من أهلها إلى تسليمها بالأمان لأتسز في ذي القعدة سنة 468 ه (ابن القلانسي، ص108، 109 – ابن الأثير، ج10 ص 100 )، وخضعت له صيدا وعكا، وتغلب على أكثر بلاد الشام. ثم سمت همته إلى فتح مصر، فزحف نحوها في سنة 469 ه في حشود ضخمة، فتصدى له بدر الجمالي في ظاهر القاهرة، وأنزل به هزيمة نكراء أفلت بعدها في نفر يسير من أصحابه إلى الرملة، ثم رحل من هناك إلى دمشق. وفي سنة 470 ه وصل تاج الدولة أبي سعيد تتش بن السلطان السلجوقي ألب أرسلان إلى الشام لفتحها لحسابه، فنزل في حلب وحاصرها بمساعدة شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي صاحب الموصل. وكان بدر الجمالي قد سير إلى دمشق جيشاً ضخماً بقيادة نصر الدولة الجيوشي، فحاصرها واستولى على أعمالها وأعمال فلسطين، فاضطر أتسز إلى الاستنصار بتاج الدولة تتش، ووعده أن يسلمه دمشق ويكون في خدمته، فقدم تتش لنجدته، فانسحب الجيش الفاطمي إلى الساحل "نحو صيدا"، وكان ثغرا صور وطرابلس ما زالا مستقلين في أيدي قاضييهما قد تغلبا عليهما. على أن تتش ما كاد يدخل دمشق حتى غدر بأتسز فقتله في سنة 471 ه / 1079م وقتل أخاه واستأثر بدمشق (ابن القلانسي، ص112،113 – ابن الأثير، ج10 ص111 ). وأخذ تتش يستولي على سواحل الشام، فافتتح صيدا في سنة 471 ه وانتزعها من نواب المستنصر (ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ص98 )، كما افتتح أنطرطوس وبعض الحصون في سنة 474 ه  (ابن الأثير، ج10 ص121 ).

   ولكن بدر الجمالي لم يرض عن هذا الوضع، وعز عليه أن ينتزع السلاجقة مدينة صيدا، فسّير إليها جيشاً بقيادة نصير الدولة الجيوشي في سنة 482 ه / 1089 م، وحاصرها، ونجح في استرجاعها، وأخرج منها نواب تاج الدولة تتش وولّى عليها نائباً من قبله، وظفر فيها يذخائر وأموال تتش (النجوم الزاهرة، ج5 ص128 ). كذلك استرجع بدر الجمالي ثغر صور، وكان بها أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل بعد وفاته، ولم تكن لديهم قوة يدفعونه بها، فسلموها إليه، وبالإضافة إلى هاتين المدينتين تمكن بدر من افتتاح ثغري جبيل وعكا (ابن القلانسي، ص120 – ابن الأثير، ج10 ص176 . ولكن ابن شداد يذكر أن بدر الجمالي استرجع صيدا في سنة 472 "ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ص99" ).

   وظلت صيدا موالية لمصر من سنة 482 ه حتى 3ربيع الآخر سنة 504 ه عندما استولى عليها بلدوين ملك بيت المقدس. أما صور فقد استقل بها واليها من قبل المستنصر وهو منير الدولة الجيوشي في سنة 486 ه (ابن القلانسي، ص124 )، فسيّر إليه بدر الجمالي جيشاً استنزله واسترجع المدينة، وتولى عليها والٍ يسمى الكتيلة لم يلبث أن أعلن استقلاله بها عن الفاطميين في سنة 490 ه / 1096م، فأرسل إليه الأفضل شاهنشاه وزير الخليفة المستعلي بالله الفاطمي جيشاً لاستنزاله، وتمكن هذا الجيش من دخولها والقبض على واليها الثائر (المصدر نفسه، ص134. وبهذه المناسبة ينبغي أن نشير هنا إلى أن الأستاذ منير الخوري مصنف كتاب "صيدا عبر حقب التاريخ" كثيراً ما يربط أحداث صور بصيدا ويخلط بين المدينتين فيذكر أن القاضي عين الدولة بن أبي عقيل استقل بصور وصيدا، ويذكر أيضاً أن بدر الجمالي أسند ولاية صور وصيدا إلى منير الدولة، وهو قول غير صحيح ولا يستند على أسانيد تاريخية "راجع منير الخوري، ص149"). ويذكر الشيخ طنوس الشدياق أن شمس الملوك دقاق بن السلطان تاج الدين تتش (استشهد تاج الدولة في سنة 487 ه )، الذي تولى دمشق في سنة 488 ه ولى الأمير عضد الدولة شمس المعالي أبا المحاسن الأرسلاني على صيدا وبيروت في سنة 494 ه 1100 م مكافأة له لتصديه لجيش ريمون الصنجيلي عند نهر الكلب، وأمره بتحصينهما، فأناب عضد الدولة عنه في ولاية صيدا الأمير مجد الدولة محمد بن عدي بن سليمان من بني عبد الله، الذي تولى تحصين صيدا (الشدياق، ج2 ص294 – ذخائر لبنان، ص178 ).

( ه ) ازدهار صيدا في العصر الفاطمي:

   على الرغم من قصر أمد فترة الاستقرار التي نعمت بها صيدا في العصر الفاطمي، وشمول الفوضى والقلاقل والفتن في ربوع البلاد الشامية بسبب تصارع القوى الإسلامية المختلفة، وتنازع الولاة على السلطان، فإن مدينة صيدا شهدت في هذا العصر الفاطمي ذروة ازدهارها، ونستدل من صف الرحالة الفارسي ناصر خسرو لصيدا في سنة 438 ه / 1047 م على أن صيدا كانت تعتمد في ثروتها الاقتصادية على زراعة قصب السكر بالإضافة إلى زراعة أشجار الفاكهة، كما نستدل أيضاً من وصفه لسوق صيدا، وبهائه وحسن منظره على ازدهار التجارة في صيدا، وهو أمر طبيعي باعتبارها ثغراً بحرياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموانئ الشام الأخرى وموانئ مصر. كذلك نستدل من وصفه لها على أن المدينة كانت مسوّرة بسور حصين تنفتح فيه ثلاثة أبواب، وأنها كانت حصينة مزودة بقلعة قوية من الحجر لعلها كانت مقامة في نفس الموضع الذي تقوم عليه اليوم قلعة البر، وأنها كانت مزودة أيضاً بمسجد جامع نعتقد أنه كان يقوم في نفس البقعة التي أقيمت فيها الكنيسة الاسبتارية في عهد الاحتلال الصليبي، ثم تحولت هذه الكنيسة فيما بعد إلى مسجد جامع بعد أن استرد الأشرف خليل مدينة صيدا في سنة 690 ه /1291 م، يقول ناصر خسرو: " وبعد ذلك وصلنا إلى مدينة صيدا وهني أيضاً على ساحل البحر، وفيها يزرع القصب بكثرة، ولها سور حجري محكم، وثلاث بوابات،ومسجد رائع تقام فيه صلاة الجمعة بخشوع تام وروح عالية، وقد فرش الجامع كله بالحصير المنقوش. وللمدينة سوق جميلة مزينة، بحيث أنني ظننت حين رأيتها أن المدينة قد زينت لاستقبال السلطان، أو للاحتفال بإحدى المناسبات، فلما سألت عن السب قيل لي: التقليد في هذه المدينة أن تكون دائماً على هذا النحو. وفيها بساتين ذات أشجار منسقة حتى لتقول إن ملكاً له ولع بالبساتين قد غرسها. وفي هذه البساتين جوسق، وأكثر الأشجار هناك مثمرة" (ناصر خسرو علوي، سفر نامة، طبعة برلين "بالفارسية" ص 20 ).

   ولم تتغير صورة صيدا التي وصفها ناصر خسرو في سنة 438 ه / 1047 م كثيراً عنها في زمن الشريف الإدريسي الجغرافي الذي زارها في سنة 548 ه / 1154 م بعد أن دخلها الصليبيون، فمن المعروف أن التطور العمراني والفني يستلزم زمناً أطول بكثير من التطور التاريخي، ولذلك فإن وصف الإدريسي لصيدا يمكن أن ينطبق على المدينة في العصر الفاطمي المتأخر. يصف الإدريسي صيدا بقوله:  " وأما مدينة صيدا فهي على ساحل البحر الملح، وعليها سور حجارة ينسب إلى امرأة كانت في الجاهلية (لعل فيما ذكره الحميري في الروض المعطار في خبر الأقطار في قوله إن صيدا تحمل اسم امرأة "القلقشندي، ج4 ص111" علاقة بما ذكره الإدريسي قبله )، وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق رخيصة الأسعار، محدقة بالبساتين والأشجار، غزيرة المياه، واسعة الكور، لها أربعة أقاليم، وهي متصلة بجبل لبنان (Idrisi, Palaestina et Syria, p. 15 )".

   ولقد عني ولاة صيدا من قبل الخليفة الفاطمي بتحصينها، وقد رأينا أن الأمير عضد الدولة شمس المعالي أبا المحاسن الأرسلاني عهد بتحصينها إلى نائبه عليها مجد الدولة فتم ذلك في سنة 494 ه. ويبدو أن أعمال التحصين بدأت قبل هذا التاريخ بثلاث سنوات واستكملت في سنة 494 ه بدليل أننا عثرنا على نص كتابي محفوظ بمتحف اللوفر يسجل تاريخ إنشاء برج حربي في مدينة صيدا على يد الأمير سعد الدولة أبي منصور أستكين الأفضلي، الذي نعتقد أنه كان يتولى هذه المدينة في التاريخ المذكور. والنص يتألف من عشرة أسطر من الكتابة الكوفية المزهرة، نطالع فيه ما يلي: " بسملة لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله، علي ولي الله، صلوات الله عليهما وعلى آلهما، أمر بعمارة هذا البرج فتا مولانا وسيدنا أحمد أبي القاسم الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، السيد الأجل الأفضل، شرف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبي القاسم شاهنشاه المستعلي بن السيد الأجل أمير الجيوش عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، على يد مملوكه الأمير … سعد الدولة أبو منصور أستكين الأفضلي … سنة أحد وتسعين وأربع ماية" (Repertoire Chronologique d’Epigraphie “Arabe, t. 8, p. 39 ).