العصور التي مرت على صيدا

3- غارات القبارصة والجنوية على صيدا وأثره في اهتمام المماليك بإعادة تحصينها .

( أ ) غارات القبارصة على صيدا.

(ب) غارات الجنوية على صيدا.

(ج) إهتمام المماليك بإعادة تحصين صيدا.


 

غارات القبارصة والجنوية على صيدا وأثره في اهتمام المماليك بإعادة تحصينها

( أ ) غارات القبارصة على صيدا:

   لم يؤد نجاح الأشرف خليل في طرد الإفرنج نهائياً من أراضي الشام إلى توقف الصراع الحربي بين المسلمين والصليبيين، بل كان ذلك الحدث من العوامل التي أججت نيران هذا الصراع وقوت من حدته، فإن قوى الصليبيين بارتكازها في قبرص ورودس وأرواد باتت تشكل خطراً متواصلاً على السواحل المصرية والشامية. وكانت الاعتداءات الصليبية على سواحل الشام من العوامل الرئيسية التي دفعت نواب السلطنة في الشام إلى تدمير أسوار المدن الساحلية وتخريبها حتى لا يتمكن المعتدون من احتلالها والتحصن فيها، واتخاذها مراكز لتوجيه عدوانهم على بلاد الشام بغية تأسيس مستعمرات صليبية جديدة. وعلى الرغم من نجاح سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري في استرداد جزيرة أرواد في سنة 702 ه / 1302 م (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، نسخة مصورة من المخطوط محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 549 معارف عامة ج 30 ص4 – ابن أيبك الدواداري، الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر، ج9 تحقيق هانز روبرت رويمر، القاهرة 1960 ص40 – أبو الفداء، المختصر، ج7 ص57 – ابن تغري بردى، ج8 ص156) بعد أن فتحها عنوة، فقد ظل فرسان الاسبتارية الذين انتقلوا إلى جزيرة قبرص بعد قيام الأشرف خليل بتحرير الأراضي الشامية من المستعمرات الإفرنجية يهددون السواحل الشامية تهديداً مباشراً بغاراتهم المتواصلة منذ سنة 702 ه التي سقطت فيها أرواد في أيدي المسلمين، وساعد موقع قبرص الاستراتيجي الهام في قبالة الساحل السوري على تزايد الغارات الصليبية على موانئ لبنان بوجه خاص (طرابلس الشام، ص339). وإذا كانت طرابلس الشام هي أول مدن الساحل الشامي التي تعرضت لغارات الإفرنج في شعبان سنة 698 ه / 1298 م فإن مدينة صيدا هي الأخرى كانت هدفاً رئيسياً للغارات البحرية القبرصية، وكانت هذه الغارات أشبه بغارات القراصنة القصد منها السلب والنهب واختطاف الأهالي بغية المطالبة بفدياتهم.

   وأول هذه الغارات التي شنها القبارصة غارة قام بها هؤلاء الإفرنج على الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في سنة 702 ه / 1302 م في نفس العام الذي فتح فيه المماليك جزيرة أرواد، ففي 8 جمادى الأول من هذه السنة نزلت جماعات مسلحة من الإفرنج على نهر الدامور، فاشتبك معها الأمير فخر الدين عبد الحميد بن جمال الدين التنوخي وأخوه الأمير شمس الدين عبد الله مع عسكر المسلمين في معركة انتهت بتغلب الإفرنج وسقط الأمير فخر الدين صريعاً في حين وقع أخوه شمس الدين أسيراً في أيدي القبارصة، فاستبقوه خمسة أيام ثم افتداه الأمير ناصر الدين الحسين ابن خضر متولي الغرب بمبلغ من المال قدره ثلاثة آلاف دينار صورية (الدويهي، ص160 – الشدياق، ج1 ص277).

   ولم يمض على هذه الغارة أربعة أعوام حتى تعرضت مدينة صيدا نفسها لغارة بحرية عنيفة. ويذكر صالح بن يحيى أنه "في العشر الأخير من جمادى الأول جاز على بيروت تعميرة للإفرنج، ولم يتعرضوا لها وتوجهوا إلى صيدا، فأخذوها وقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة، ونهبوا منها شيئاً كثيراً، وكذلك المسلمين قتلوا من الإفرنج جماعة وبعثوا برؤوسهم إلى دمشق وعلقوا على القلعة، فكانت بضع وثلاثين رأساً". وبادر الأمير شهاب الدين بن صبح نائب صفد بالسير إلى صيدا سابقاً عسكر دمشق، ولكنه أدرك السفن الصليبية وهي راسية على جزيرة صيدا بعد انتهائها من الغارة، فافتدى جميع الأسرى من أموال ديوان الأسرى وقدرها ثلاثون ألف درهم افتدى بها ستين أسيراً (صالح بن يحيى، ص29 – وينقل الأستاذ يوسف مزهر التاريخ خطئاً فيؤرخ الغارة في 1304 م بدلاً من 1306 " مزهر، ج1 ص244").

   ويروي الدويهي ت1699 م عن ابن سباط أن مراكب الإفرنج قصدت صيدا في سنة 756 ه / 1355 م وهاجموا المدينة وقتلوا طائفة من أهلها وأسروا طائفة أخرى، فقاتلهم أهل صيدا قتالاً شديداً وقتلوا منهم عدداً كبيراً، ودمروا مركباً من مراكبهم، واستنجد أهل صيدا بنائب دمشق، فاحتشدت الأجناد من دمشق وصفد ووصلت بعد انتهاء المعركة، وبادر المسلمون بافتداء الأسرى على أساس 500 درهم لكل أسير، وأنفقوا في ذلك مبلغاً قدره 30 ألف درهم من مال ديوان الأسرى (الدويهي ص183 – الدبس، ج6 ص405).

   ويذكر النويري الإسكندري في مخطوطة الإلمام بما قضت به الأحكام أن ثلاثة أغربة قبرصية قدمت إلى ميناء أبي قير الواقعة إلى الشرق من مدينة الإسكندرية في فجر يوم 27 شعبان سنة 765 ه / 1363 م، وأسر أصحابها من قصور البساتين 76 من المسلمين ما بين رجال ونساء وصبيان، ومضوا بهم إلى ساحل صيدا، ففاداهم أهل صيدا بمال وردوهم إلى أوطانهم (النويري الإسكندري، الإلمام بما جرت به الأحكام المقضية في وقعة الإسكندرية، نسخة مصورة من المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية المقيدة برقم 1449 تاريخ، محفوظة بمكتبة آداب الإسكندرية برقم 737 م، ورقة 72ب، 73أ) .

   ثم توالت غارات القبارصة على صيدا منذ سنة 769 ه / 1367 م على نحو يكاد يكون متواصلاً: ففي هذه السنة أغار إبراهيم بن الخبازة القبرصي أحد قواد القبارصة البحريين في غيبة صاحب قبرص بغرابين وشيطي على بلدة الصرفند الواقعة على بعد 15 ك.م. جنوبي صيدا، بنية خطف نسائها ونهبها، ولكنه لم يخرج من هذه الغارة التي قتل فيها ثلاثين نفراً من أهل الصرفند إلا بعدد قليل من الأسرى يصل إلى 13 أسيراً (النويري، المصدر السابق، ورقة 99أ – 100ب Aziz Surial atiya, The crusade in the Later Middle Ages, London, 1938, p. 363  - سعيد عاشور، الحركة الصليبية، ج2 ص1228).وقد أورد النويري تفصيلات عن هذه الغزوة نقلها عن الشيخ عبد الله ابن نجم الصرفندي الذي رحل إلى الإسكندرية بعد الوقعة المذكورة، فذكر أن رجلين من أهل الصرفند تخاصما، "فمضى أحدهما يشتكي الآخر من عند والي صيدا، فلما كان في الليل ضرب البوق والزمر، فظن أهل البلد أن الرجل أتى بكبس الصرفند، فخرج أهل البلد منه هاربين، فبينما هم خارجين من البلد وإذا بالناس يصيحوا ارجعوا إلى بلدكم، وقاتلوا عدوكم، فإنما هم إفرنج. فرجعت الناس، فهربت الإفرنج بعد أن قتلوا من المسلمين ثلاثين نفراً ممن أدركوه في أزقة البلد وأسروا ثلاثة عشر منهم ثلاث نسوة وأربع صبيان وأربع بنات وطفلين على أكتاف أمهاتهما، ولم ينالوا من البلد شيئاً غير المأسورين المذكورين" (النويري، المصدر السابق، ورقة 100أ).

   وفي أواخر هذا العام خرج سنجوان دمرف القبرصي Jean de Morf  عم بطرس الثاني دي لوزنيان بن هيو الرابع ملك قبرص 1369 – 1382 والوصي عليه، في أربع بطسات وأغار على سواحل صيدا والبترون وأنطرطوس واللاذقية (Aziz Surial Atiya, op. Cit. P. 374 – عبد العزيز سالم، طرابلس الشام، ص364) .

   ثم انقطعت غارات القبارصة على صيدا فترة طويلة استمرت نحواً من ستة وأربعين سنة من 1367 حتى 1413 م، وذلك بعد أن عقدوا الصلح مع السلطان المملوكي المنصور علاء الدين علي بن شعبان في سنة 772 ه / أكتوبر 1370 م. ثم عاودوا الغزو في سلطنة المؤيد شيخ 815 – 824 ه رداً على غارات المماليك على قبرص في عامي 813 ، 814 ه. ففي سنة 816 ه / 1413 م أغار القبارصة على بلدة الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في منتصف الطريق إلى بيروت، فبادر الملك داود الجركسي بالنهوض إليهم من دمشق، وانضم إليه الأمير قاسم بن محمد بن أبي بكر بن حسين الشهابي أمير وادي التيم ولبنان برجاله (الدويهي، ص201 – الشدياق، ج1 ص47، ج2 ص301)، والأمير سيف الدين أبي المكارم يحيى بن نور الدين صالح أمير الغرب، وبادر لنجدتهم السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي نائب السلطنة بدمشق، وكان على مدينة بعلبك، فركب من وقته ووصل إلى بلدة الناعمة (تقع في الطريق بيروت – الدامور – صيدا على مسافة غير بعيدة من خلدة) حيث يقع معسكر أمير الغرب، وقاتل هو والأمراء الآخرين الإفرنج بعد أن دخلوا في بلاد صيدا وبيروت وعاثوا فيها فساداً، فتغلب عليهم وقتل منهم سبعين شخصاً (بدر الدين العيني، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد، تحقيق الأستاذ فهيم محمد شلتوت، القاهرة، 1967 ص228 – إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان، ص185)، وأجلاهم في شوانيهم عن الساحل، وفي ذلك يقول العيني:

          له غزوات مع فرنج بساحل  بصيدا وبيروت بعز تشيد

(العيني، المصدر السابق، ص4 – الشدياق، ج2 ص301، 302)

   وقد أدت هذه الغارة وغارات أخرى قام بها الكتيلان والقبارصة على سواحل يافا والإسكندرية في سنة 819 ه / 1417 م، واعتدائهم على الإسكندرية من جديد في شعبان سنة 825 ه / 1422 م وفي العام التالي، إلى قيام السلطان الملك الأشرف برسباي 825 – 841 ه بالرد على هذه السياسة العدوانية رداً حاسماً، ففكر جدياً في فتح جزيرة قبرص، وبدأ في سنة 827 ه / 1423 م بتسيير حملة استطلاعية تمهيداً لافتتاح الجزيرة المذكورة سماها العيني الغزوة الصغرى (نفس المصدر، ج25 قسم 3 من المخطوطة وعنوانها "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"،المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 1584 تاريخ، ورقة 572 Ziada (M. M.),The Mamluk conquest of Cyprus, Bulletin de la Faculte des Lettres, Univ. d'Egypte, vol. I, partie 1ere, Mai, 1933, p. 93) ، ثم سير في العام التالي أسطولاً يتألف من 40 سفينة بقيادة الأمير جرباش الكريمي، اشتركت فيه قوة تونسية من قبل السطلان الحفصي أبي فارس ت 1434، وأرست الحملة بالماغوصة، وهزم المماليك القبارصة في عدة مواقع، وعادت السفن المصرية إلى قواعدها وهي تحمل ما يزيد على ألف أسير (العيني، ج25 قسم3 ص576). وتم فتح جزيرة قبرص في صيف سنة 829 ه / 1425 م (نفسه، ص580 – ZIADA, OP. CIT. P. 100  - طرابلس الشام، ص390).

(ب) غارات الجنوية على صيدا:

   أدى احتكار البنادقة لمعظم النشاط التجاري في حوض البحر المتوسط إلى قيام نزاع بينهم وبين الجنوية منافسيهم في التجارة البحرية، وعمد الجنوية إلى وقف هذا النشاط وعرقلته عن طريق شن الغارات على سواحل الشام ومصر، وانضم إلى الجنوية في هذه الغارات طوائف من قراصنة الكتيلان والروادسة والقبارصة، وتعرض ثغر صيدا لاعتداءاتهم عدة مرات، أولها في جمادى الآخر سنة 784 ه / 1382 م وذلك عندما قام الجنوية بعملية إنزال على الساحل الصيداوي، واستولوا على المدينة، وعاثوا فيها فساداً، وتمكنوا من الاستيلاء على بضع مراكب صغار، ثم توجهت سفنهم بعد ذلك إلى بيروت. وبلغ سيف الدين بيدمر الخوارزمي نائب السلطنة في الشام نبأ نزولهم في صيدا ثم خروجهم عنها إلى بيروت فقال: "صيدا ما بقينا نلحقها، نروح نلحق بيروت"، فسار في حشوده إلى بيروت في الوقت الذي وصلت فيه سفن الجنوية، فأحجم هؤلاء عن النزول، وعادت سفنهم إلى قبرص (القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، تحقيق الأستاذ عبد الستار أحمد فراج، الكويت 1964، ج2 ص188 – صالح بن يحيى، ص31 ، 33 – الدبس، ج6 ص415 Lammens, t. II, p. 19 ) .

   واستمر الصراع قائماً بين الجنوية والبنادقة حتى طليعة القرن التاسع الهجري، ففي 20 من المحرم سنة 806 ه / 1404 م أغار الجنوية على بيروت في 37 شيني و 9 مراكب صغار بقيادة أمير البحر الفرنسي بوسيكو (Lammens, p, 19) ، وتوجهوا في نفس الليلة إلى جهة صيدا، حيث نزلوا إلى البر على مسافة لا تزيد على ميل من المدينة، وكان قد اجتمع على صيدا العشران (العشران بمعنى الأحزاب مفردها عشير، وقد اشتهر من العشران عشير البقاع وعشير صيدا وبيروت "راجع: عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، بيروت 1966 ص56 حاشية رقم2) وغيرهم، ولم يجسر الجنوية على دخول صيدا لكثرة من احتشد فيها من جيوش المسلمين، وكان شيخ الخاصكي نائب السلطنة في دمشق قد خرج منها في دورته بالبقاع وبعلبك، فبلغه نبأ نزول الجنوية على طرابلس، فتوجه إليها، ولكنه وصل بعد فوات الأوان، ثم مضى إلى بيروت وقد خرج الجنوية منها إلى صيدا، فهاجمهم واشترك معه في الهجوم بنو بحتر أمراء الغرب، فرماهم الجنونية بالجروخ، وأصيب فرس الأمير شيخ، كما أصيب جماعة من المسلمين، واضطر الجنوية إلى التراجع نحو سفنهم التي انسحبت من الشاطئ إلى ميناء الجزيرة (الميناء الخارجي)، وأقام المسلمون يراقبونهم طوال الليل على الساحل، واستعد الأمير شيخ لتلقيهم في الصباح إذا أعادوا النزول إلى البر، وأمر بإحضار مصاريع الأبواب واتخاذها زحافات وستائر للزحف عليها عند نزولهم، ولكنهم إذ أدركوا تأهب المسلمين لتلقيهم ومنازلتهم أحجموا عن النزول إلى البر، واتجهوا بسفنهم إلى شمال بيروت قاصدين نهر الكلب بقصد أن يتزودوا بالمياه، ثم انسحبوا بعد ذلك إلى سفنهم، وعادوا من حيث أتوا إلى بلادهم (صالح بن يحيى، ص33 ،34) .

(ج) اهتمام المماليك بإعادة تحصين صيدا:

   كان من أثر الغارات سالفة الذكر على ثغر صيدا، أن وجه نواب السلطنة في دمشق وولاتهم على صيدا اهتماماً خاصاً بتحصين المدينة وترميم أسوارها وقلاعها تمكيناً للدفاع عنها ضد المغيرين من القبارصة أو الجنوية، وقد رأينا فيما زودنا به الرحالة العرب والغربيين ما يدل على أن المدينة زودت بتحصينات هامة في العصر المملوكي، ويتجلى الطابع الإسلامي المملوكي في بعض القبوات المتعارضة في بهو البرج الكبير بالقلعة البرية، وهي قبوات تقوم على دعامتين من البناء قطاعهما مربع الشكل (Dechamps, p. 229) . ونرى الأثر الإسلامي المملوكي واضحاً في الجانب الجنوبي الغربي من قلعة البحر، ويتجلى ذلك بصورة لا تخفى على الباحث في البرج الرئيسي (أ)، وهو برج كبير الحجم ذو طابقين ثم يعلوه سطح كان مشرف الذروة ثم فقدت هذه الشرفات مع ما تخرب من القلعة عندما تعرضت للمدافع الإنجليزية في سنة 1840 (أحمد عارف الزين، ص103).

   ويبدو هذا البرج الضخم في وجهه القبلي المطل على المدينة مدوراً بينما يبدو في الجهات الأخرى مستطيل الشكل، وتنفتح في الطابق الأول منه في كل وجه من وجوهه نافذة معقودة بعقد منكسر الرأس ويتخلل وجوهه منافذ للسهام، ويمكن للمرء أن يصعد من هذا الطابق إلى الطابق الثاني عن طريق درج ضيق يدور في الجانب الشمالي منه. ويتمثل الأثر الإسلامي المملوكي في القبوات المتعارضة التي تكوّن سقوفه، ونجد لهذه القبوات نظائر في سائر منشآت المماليك الحربية والمدنية، كما يتمثل هذا الأثر الإسلامي في طابع منافذ السهام من الداخل، وفي العقود المدببة التي تعلو النوافذ المستطيلة الشكل لا سيما العقد ذي الوسائد المتصلة وهو المعروف بالمخدد الذي يطوق فتحة النافذة الشمالية من البرج المذكور، وهو عقد تشاهد نماذج منه في بوابة الفتوح في القاهرة، وفي مدخل جامع الظاهر بيبرس، ومدخل خانقاه بيبرس الجاشنكير ونافذة مئذنة سنجر الجاولي في القاهرة، وفي مئذنة جامع الأمير سيف الدين طينال بطرابلس ومنظرة المدرسة الشمسية المطلة على مدخل الجامع المنصوري الكبير بطرابلس (طرابلس الشام، ص419). ويؤكد الأثر الإسلامي الواضح للبرج نقش تاريخي على لوحة من الرخام الأبيض صغيرة الحجم مثبتة بأعلى النافذة المذكورة بقلعة صيدا البحرية، يتضمن عدداً من السطور الكتابية بالخط النسخي قرأتها بصعوبة شديدة بسبب اختفاء ومحو كثير من الكلمات، وتآكل الكتابة في السطر الأخير كله، ونطالع في هذه اللوحة التذكارية النص الآتي: [ بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا الحصن (ب) السعيد المقر الكريم العالي المولوي الإمامي العا (ج) دلي العالمي … (د) جلبان الظاهري … (ه) أنصاره على نية الغزاة في سبيل الله تعالى في سنة اثنين (و) وخمسين (وسبعمائة) …].

   ونستدل من الألقاب الواردة في النص المذكور على أن البناء أقيم في العصر المملوكي، وأن منشئ الحصن هو الأمير جلبان الظاهري الذي لا نعرف عنه شيئاً. وقد استطعنا أن نطالع بصعوبة بالغة الرقمين الأولين من تاريخ الإنشاء وهما اثنين وخمسين، أما الرقم الثالث الذي يدل على المئات، ويقع في السطر الأخير من النقش فقد محيت معالمه ومعالم ما بقي من كلمات النقش حتى نهاية السطر تماماً، ولذلك كان علينا أن نفترض لتكملة التاريخ الإنشائي ثلاث افتراضات نعني بها أرقام ستمائة وسبعمائة وثمانمائة. أما الافتراض الأول فنستبعده لأن صيدا كانت في التاريخ الذي يسجله هذا الافتراض الأول وهو 652 ه ما تزال خاضعة للصليبيين، ولهذا فإننا نحصر الاختيار بين 752، و852 ه. ويبدو لنا تاريخ 752 ه أكثر الافتراضين احتمالاً وذلك لعاملين: الأول، أن معظم الرحالة العرب والأوروبيين الذين زاروا صيدا في القرن الثامن الهجري أو الرابع عشر الميلادي يؤكدون أن المدينة كانت حصينة، بل أن القلقشندي المتوفي في سنة 821 ه يؤكد أن المدينة كانت مزودة بقلعة منيعة لا ترام/ والثاني، أن صيدا شهدت في هذا القرن الثامن الهجري عصر الغارات القبرصية والجنوية المتواصلة التي استهدفت نهب المدينة وتدمير منشآتها وقتل وأسر سكانها، واستلزم الأمر ضرورة ترميم القلاع والأسوار القديمة، لا سيما القلعة البحرية التي تحمي الساحل حتى تقوى المدينة على الصمود أمام الغزاة ورد المغيرين عليها. والرقم الثالث الذي افترضناه وهو (ثمانمائة) يجعل تاريخ إنشاء البرج في سنة 852 ه أي بعد انتهاء عصر الغارات. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأشرف برسباي استولى على جزيرة قبرص، المركز الرئيسي للاعتداءات القبرصية والجنوية على سواحل مصر والشام، في سنة 829 ه، فيكون بناء البرج في سنة 852 ه قد جاء متأخراً للغاية.

   وعلى هذا الأساس نرجح تاريخ سنة 752 ه ليكون تاريخ إنشاء البرج المذكور. وعلى أساس صحة افتراضنا يمكننا أن ننسب الأمير جلبان الظاهري الذي ورد اسمه في النقش إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس المتوفي سنة 676 ه.

   أما الأسوار الباقية، فقد اتخذت جدراناً لصف من الدور تمتد من البوابة الفوقا حتى البوابة التحتا في الشمال، ويتجلى من آثار هذه الأسوار أنها أقيمت على عجل، وأنه لم يراع في بنائها النظم المعمارية الحربية المتبعة في التحصينات الضخمة التي أقيمت في عصر المماليك. ولم يتبق من البوابتين الفقيرتين المتبقيتين من بوابات صيدا سوى منبتا عقديهما بالإضافة  إلى عضادتي كل منهما، ويحتاج الأمر إلى دراسة تفصيلية دقيقة لبقايا التحصينات المملوكية بصيدا.

خاتمة

نهوض صيدا في عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني

   حسمت موقعة مرج دابق رجب 922 ه / 1561 م مصير الشام ومصر فأصبحتا تابعتين للدولة العثمانية، وأصبحت دمشق التي أسندت نيابتها إلى جان بردي الغزالي إيالة عثمانية تضم عشر سنجقيات، من بينها صيدا. وزاد اضمحلال صيدا في العصر العثماني وفقدت أهميتها، وأصبحت أقرب ما تكون إلى القرية منها إلى المدينة، وقد اعتبرها صاحب الكواكب السائرة قرية عندما ترجم للشيخ كمال الدين محمد الخطيب، سبط الشيخ البرهان الباعوني المتوفي في صيدا في 12 جمادى من سنة 923 ه (الغزي، الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة، تحقيق الأستاذ جبرائيل سليمان حبور، بيروت، 1945، ج1، ص88).

   وفي بداية العصر العثماني خرج الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين عن طاعة السلطان العثماني، فاستولى جان بردي الغزالي على صيدا، وفر الأمير ابن الحنش (الشدياق، ج1 ص293، ج2 ص303)، ثم قتل. فولى السلطان سليم الأمير محمد بن قرقماس على بيروت وصيدا بالإضافة إلى التقدمة على بلاد البقاع، وذلك في 28 ذي الحجة سنة 923 ه / 1517 م (شمس الدين محمد بن طولون، مفاكهة الخلان في حوادث الزمان، تحقيق الدكتور محمد مصطفى، قسم 2، القاهرة، 1964، ص77).

   ثم أخذت الحياة تدب في صيدا من جديد منذ أن اتخذها الأمير فخر الدين المعني الثاني بن قرقماز بن فخر الدين الأول في سنة 1594 حاضرة لإمارته ومقراً له. ولم تلبث إمارة الشوف التي يتولاها أن اتسعت بعد أن ضم إليها بيروت وكسروان لمدة عام واحد، وذلك بعد انتصاره على يوسف باشا سيفا والي طرابلس في موقعة جرت عند نهر الكلب في سنة 1598، ثم تركها له برضائه (الدويهي، ص291 – عيسى اسكندر المعلوف، ص69، 70 – الشدياق، ج1 ص294). وفي فترة رحلته إلى توسكانا بإيطاليا فيما بين عامي 1612 – 1617 م انتزع أحمد باشا الحافظ ولاية بيروت وكسروان من أتباع فخر الدين وسلمها إلى حسين باشا بن يوسف سيفا، كما أسند سنجقية صيدا إلى ابن البستنجي. ولما عزل الحافظ من منصبه في أواخر سنة 1614 بعد صدور فرمان العفو عن فخر الدين، أنعم جركس محمد باشا نائب دمشق الجديد على المير يونس المعني، شقيق فخر الدين، بسنجقية صيدا وبيروت وبلدانهما كما أنعم على الأمير علي بن فخر الدين بسنجقية صفد في سنة 1614. وعندما عاد فخر الدين من رحلته في إيطاليا عمد إلى توسيع منطقة نفوذه، ففي سنة 1618 استولى على جبيل وهدمها وولى عليها الشيخ أبا نادر الخازن (نفس المرجع، ص311 – عيسى المعلوف، ص177 ، 178)، وتمكن من استعادة عدة سنجقيات مثل صيدا وصفد ونابلس وبعلبك والبقاع وطرابلس وحوران وعجلون والكرك، فاتسع سلطانه وأدخل في إمارته أنواعاً جديدة من الزراعة كالتوت اللازم لتربية دود القز، كما طوّر الصناعات ونشّط التجارة البحرية، فكثرت موارده. وفي سنة 1620، حاصر فخر الدين قلعة طرابلس وكاد ينتزعها من يوسف باشا سيفا (نفس المرجع، ص313 – عيسى المعلوف، ص180)، وفي العام التالي ولاّه محمد باشا الكرجي على جبيل والبترون وبشرّي والضنية وعكار بالإضافة إلى إمارة الشوف وسنجقية صيدا (الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، تحقيق الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد أفرام البستاني، بيروت 1969 ص101 – عيسى المعلوف، 181). ولم يمض على ذلك عامان 1624 حتى أنعم عليه السلطان بولاية عربستان وتمتد من حدود حلب إلى حدود العريش (الدويهي، ص318 – عيسى المعلوف، ص180). وتلقب بلقب "سلطان البر" وهو اللقب الذي كان يحمله جده فخر الدين الأول ( المعلوف، ص188 – إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان، ص235). وإلى هذه الفترة ترجع معظم منشآته وأعماله الداخلية، فقد شيد القصور وغرس الحدائق وأسس الفنادق، وحصّن القلاع، ونهض بالزراعة والصناعة والتجارة، وعقد المعاهدات التجارية مع قناصل الإفرنج (نفس المصدر، ص189).

   غير أن الدولة العثمانية لم تلبث أن ارتابت في نوايا الأمير فخر الدين بسبب سعيه المتواصل لتخليص الشام من السيطرة العثمانية وإقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى ارتباطه بصلات سياسية مع بعض الدول المناهضة للدولة العثمانية، فعمدت إلى محاربته والقضاء عليه. وعهد السلطان مراد إلى الوزير الكجك أحمد باشا بقيادة حملة هدفها القبض على الأمير فخر الدين. وتم أسره في آخر جمادى الثاني سنة 1633، وحمل إلى القسطيطينية مع ثلاثة من أولاده هم منصور وحيدر وبلك وزوجاته الأربعة، ثم قتل بأمر السلطان مراد هو وأولاده الثلاثة وزوجاته في 13 مارس سنة 1635.

   وشهدت صيدا في عهد الأمير فخر الدين الثاني ازدهاراً لم تشهده منذ أيام الدولة الفاطمية، فقد تهمم بها الأمير وخصّها بعنايته مذ اتخذها قاعدة لولايته، وكانت صيدا قبل ذلك مجرد قرية صغيرة تقوم في نواحيها أطلال دارسة من تاريخها القديم والوسيط، فعمل على تجديد رسومها وترميم ما عفى من أبنيتها وقلاعها وتحسين مرفئها وترويج تجارتها، واهتم بتنمية مواردها عن طريق تنشيط الحركة التجارية وحماية التجار من القراصنة، وتشجيع الصناعة وعلى الأخص صناعة الحرير والصابون والصباغة (عيسى المعلوف، ص90)، وربط صيدا تجارياً بتوسكانا وغيرها، وزودها بالفنادق والخانات لنزول تجار الإفرنج. ومن أهم منشآت فخر الدين المدنية والاقتصادية: إنشاء جسرين أحدهما على نهر الأولي من عقد واحد أقامه المهندس فرنسيسكو شيولي، والثاني على نهر القاسمية (نفس المرجع ص254 – يوسف مزهر، ج1 ص338 – فيليب حتي، ص457) جنوبي صيدا، بينها وبين بلدة الصرفند، وإنشاء الخانات لنزول التجار الأجانب وأهمها خان الإفرنج أو الخان الفرنساوي الذي أصبح اليوم داراً لليتيمات تحت إدارة راهبات مار يوسف (نفسه، ص263)، وخان الرز. كذلك أسس قصراً لم يستكمل بناؤه يقع بإزاء خان الإفرنج، وأسس قصوراً أخرى تحيط بها الحدائق والبساتين. ومن أهم منشآته المدنية أيضاً توسيعه لمرفأ صيدا، وإنشائه الحمام البراني المعروف بحمام المير. أما أعماله الحربية فتقتصر على ترميم قلعة البحر وإقامة مسجد بها بقيت كثير من عناصره في وقتنا الحاضر. وقد اجتذبت هذه الإنشاءات وما أجراه من تسهيلات، التجار الأجانب وعلى الأخص التجار الفرنسيين (Frederick, p. 105, 106) . ولكن كل هذا الإزدهار الذي نعمت به صيدا لمدة ثلاثين سنةلم يلبث أن غربت شمسه عندما

طمر فخر الدين الميناء بالرمال والحجارة وحطام السفن حتى يوعر على الأتراك الطريق إلى اقتحامها بأساطيلهم (عيسى المعلوف، ص240 Frederick p. 106  - مزهر، ج1 ص350).

   ثم تولى على صيدا وبيروت بعد آل معن أحمد آغا الشمالي، ولكنه لم يلبث أن قتل في أرض خلدة على يد ابن علم الدين في سنة 1638 إبان الصراع بين القيسية واليمنية (الدويهي، ص338)، ثم تسلمها محمد باشا الأرناؤوط والي طرابلس الذي أسند حكمها إلى زلفى آغا (نفسه، ص341)، ثم ولي عليها محمد باشا الأرناؤوط إسماعيل آغا (نفسه، ص352).

   ومنذ سنة 1658 أصبحت صيدا نيابة يتولاها الباشا، فتولاها في سنة 1660 علي باشا الدفتردار، ولما عزل في سنة 1662 تولاها محمد باشا الأرناؤوط. وظلت كذلك ما يقرب من قرن، ولكن المدينة اضمحلت اضمحلالاً شاملاً، ولم تنهض من عثرتها إلا بعد الاستقلال عندما أصبحت قاعدة جنوب لبنان.