×

حفر غضبه في جسده

التصنيف: المرأة

2009-10-22  06:17 ص  1413

 

جهاد بزي

لنمعن النظر فيه، هذا الشاب الذي وقف في الشارع، شاهراً سكينه على جسده، معملاً فيه الجرح تلو الجرح. هل نعرفه؟
لننظر إلى وجهه، وليس إلى الجراح في بطنه. هذا وجه لبناني مألوف. نلتقيه جالساً إلى الكورنيش مدخناً أرجيلة. يوصل طعامنا على دراجته النارية ويخرج من جيبه كومة أوراق نقدية غير مرتبة، ليعيد إلينا بقية مالنا بعدما ندفع إليه، ويتردد قليلاً في المغادرة، ريثما نعطيه الاكرامية. تقفز دراجته النارية أمامنا فجأة، ونكاد ندهسه. أو يظل ممدداً على الارض يئن من الالم بعدما دهسناه. يعبئ الحاجيات في الاكياس، ويجر عربة تسوّقنا ويضعها في صندوق السيارة، وينال لقاء عمله الف ليرة، ونعلم انه هو الذي يدفع للمجمع نحو خمسة آلاف ليرة لقاء ساعات محددة من هذا العمل اليومي يمضيها وهو ينقل الحاجيات وينال بدل جهده. يرتفع إطار دراجته في الهواء، ويسير بها واقفا على مقعدها، تبتعد جمجمته مترين عن التهشم تماماً. يقف مع شبان آخرين في الشارع ولا يفعل إلا هذا الوقوف. يرمي بأكثر ما استطاع من قوة عبوة المياه الفارغة إلى البحر. يسقط مضرجاً بدمائه في حي السلم، في معركة غير مفهومة. يحطم كل ما يعترض طريقه في الاشرفية. يقفز شاتماً زعيم خصمه السياسي وربه وطائفته. يخوض معارك كر وفر بين عين الرمانة والشياح، بين الخندق الغميق ورأس النبع، بين بربور وكورنيش المزرعة. يطلق النار في الهواء قبل وبعد حديث الزعيم. يسقط قتيلاً بعد تظاهرة أو حرب أهلية فرعية، وننسى اسمه في اليوم التالي على مقتله. يشاهد التلفزيون ويرى حياة الآخرين على هذا الكوكب. يحب فتاة. ينام حالماً بالسفر، أو على الاقل بوظيفة ثابتة. هل نعرفه، هذا الشاب الذي حفر في جسده كرهه الشديد وحقده الهائل ويأسه التام من هذا البلد؟
ليست مجرد دراجة، هذه التي أوصلته إلى اختناقه الأخير. هي لحظة ذروة. لم يمد السكين صوب أحد، بل صوب نفسه، صوب داخله الملآن بالوهن والتعب والخوف. هذا أقصى أنواع العنف. عنف الإبن حين يواجه أهله بإيذاء نفسه، بتحميل الأهل ذنب وصوله إلى هذه الحالة التي وصل إليها.
لم يكن يقف امام عناصر درك، ولا متفرجين في الشارع الأنيق في المنطقة التي يمكن وصفها بالفخمة. كان الشاب المجهول يقف أمام لبنان، شاهراً بوجه هذا الأب الغريب الأطوار كل رفضه له. لبنان الذي عرفه هذا الشاب ورفاقه، لبنان ما بعد الحرب لم يعطه أي شيء، فبأي حق يطلب منه دراجته النارية؟
لبنان السياحة والفنادق والمطاعم ومحلات الثياب والوسط التجاري والسيارات الفخمة والأبراج البحرية العاجية. لبنان الطبقة السياسية الفاسدة وقالب جبنتها العفن ولبنان الوظيفة المستحيلة. لبنان الذي لا يحمي عاملاً ولا يحمي أجيراً. لبنان المواكب السوداء التي تخترقنا من أعناقنا كي تمر من بيننا خائفة منا. لبنان التائه الذي يغوص في حروب متفرقة ثم في حرب أهلية صغيرة كي يحل مشاكله. لبنان القاصر عن انتخاب رئيس وعن تشكيل حكومة. لبنان الذي يخاف اللبناني فيه من مدرسته الرسمية ومن جامعته الرسمية، وترعبه مستشفياته الخاصة. لبنان الذي تنتهي علاقة اللبناني فيه عند كبير الطائفة بصفته مفتاحاً لكل أبواب الجنة، من الموقف السياسي إلى الوظيفة. لبنان الذي يمنع عن شاب تسرب من المدرسة لألف سبب أن يبدأ من نقطة صفر ما ببناء حياة حقيقية. لبنان الذي من المستحيل أن يؤمن للواحد أدنى شعور بالاستقرار والأمان. لبنان البخيل هذا، لا يخجل من سلب شاب دراجة نارية. لبنان الذي انجب هذا الشاب ورماه لقدره، لا يخجل من نفسه، وليس لدى الشاب ما يواجه به بلده، إلا سكينه وجسده.
لننظر إلى الشاب. هل رأيناه قبلاً، نحن المحظوظين بدخل ووظيفة ثابتة يؤمنان لنا إدّعاء إنتمائنا إلى الطبقة الوسطى. هل رأيناه قبلاً، نحن المحظوظين بأننا نواب ووزارء ورؤساء وأصحاب بنوك وتجار أثرياء وأصحاب رؤوس أموال نملك البلد برمته؟
هل نعرفه هذا الشاب الذي أسال دمه بيده؟
 

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

تابعنا