مهيئات النبوة, نبذة عن نسب النبي وحياته, بدء الوحي, من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم-

 بدء الوحي :

بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم - أشده وقَرُب من الأربعين ، واكتملت قواه العقلية والبدنية ، وكان أول ما بدأ به من  الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح واضحة كما رآها في منامه.

ثم بعد ذلك حُبِبَ إليه الخلاء ، فكان يخلو بنفسه في غار حراء في مكة ، فيتعبد الله الليالي ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بالطعام والشراب ، حتى جاءه الحق ، وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان ، وذلك بأن تمثل له المَلَكُ جبريل ، ولقنه عن ربه أول ما نزل من القرآن ، فقال: {اقرأ} فقال ((ما أنا بقارىء)) فقال له : {اقرأ} فقال : ((ما أنا بقارىء)) فقال : {اقرأ} فقال : ((ما أنا بقارىء)) وكان جبريل بعد كل جواب من الأجوبة الثلاثة يضمه على صدره  ، ويعصره حتى يبلغ منه الجهد.

ولما تركه جبريل في المرة الثالثة ألقى عليه أول آيات أنزلت من القرآن ، وهي: { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم }

بهذه الآيات العظيمة التي تأمر بالعلم ، وتبين بداية خلق الإنسان - بدأ نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجع النبي إلى خديجة - يرجف فؤاده ، ولكنه حفظ رشاده ، فقال : (( زملوني ، زملوني )) يعني لففوني بالثياب ، ففعلوا ، حتى إذا ذهب عنه الروع أخبر خديجة الخبر وقال : (( لقد خشيت على نفسي ))

فقالت خديجة - رضي الله عنها - : ((كلا والله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقوي الضعيف ، وتعين على نوائب الحق))

وهكذا استدلت هذه المرأة العاقلة على أن من كان هذا شأنه في محبة الخير للناس فلن يخذله الله ؛ فسنة الله تقتضي بأن الجزاء من جنس العمل.

ثم انطلقت بعد ذلك خديجة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، ويكتب الإنجيل بالعبرانية ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت خديجة له: اسمع من محمد ما يقول ، فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ياليتني فيها جذعاً ، أي شاباً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.

فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( أو مخرجي هم ؟)) قال : نعم ؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم توفي ورقة ، وفتر الوحي.

واستمرت فترة الوحي ثلاث سنين ، قوي فيها استعداد النبي ، واشتد شوقه وحنينه.

قال - صلى الله عليه وسلم - : (( بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري ، فإذا الملك الذي جاءني في حراء)).

وذكر أنه رعب منه ، ولكن ذلك دون الرعبة الأولى ، فرجع إلى أهله فتزمل ، وتدثر ( أي تغطى بالثياب).

ثم أنزل الله عليه قوله - تعالى - : {  يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر }

أي قم يا أيها الذي تدثر بثيابه ، فأنذر الناس بالقرآن ، وبلغهم دعوة الله ، وطهر ثيابك من أدران الشرك ، واهجر الأصنام.

ثم حمي الوحي بعد ذلك ، وتتابع ، وبلَّغ - صلى الله عليه وسلم - دعوة ربه ، حيث أمره وأوحى إليه بأن يدعو الناس إلى عباده وحده ، وإلى دين الإسلام الذي ارتضاه الله ، وختم به الأديان ؛ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن.

فاستجاب له أو من استجاب له خديجة من النساء ، وأبو بكر الصديق من الرجال ، وعلى بن أبي طالب من الصبيان ، ثم توالى دخول الناس في دين الله ، فاشتد عليه أذى المشركين ، وأخرجوه من مكة ، وآذوا أصحابه أشد الأذى ، فهاجر إلى المدينة ، وتتابع عليه نزول الوحي ، واستمر في دعوته ، وجهاده ، وفتوحاته ، حتى عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً .

وبعد ذلك أكمل الله له الدين وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين ، ثم توفاه الله وعمره ثلاث وستون سنة ، أربعون منها قبل النبوة ، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً.

وبه ختم الله الرسالات السماوية ، وأوجب طاعته على الجن والإنس ؛ فمن أطاعه سعد في الدنيا  ، ودخل الجنة في الآخرة ، ومن عصاه شقي في الدنيا ، ودخل النار في الآخرة.

وبعدما توفاه الله - عز وجل - تابع أصحابه مسيرته ، وبلغوا دعوته ، وفتحوا البلدان بالإسلام ، ونشروا الدين الحق حتى بلغ ما بلغ الليل والنهار.

ودينه - عليه الصلاة والسلام - باق إلى يوم  القيامة ؛ فما القول في أمي نشأ بين أميين ، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين ، في الشرائع ، والسياسات ، وسائر أمور الدنيا والدين؟ وامتد مع لغته في قرن واحد من الحجاز إلى آخر حدود أوربا وأفريقيا من الغرب ، و إلى حدود الصين من جهة الشرق حتى خضعت له الأمم ، ودالت له الدول ، وأقبلت إليه الأرواح قبل الأشباح ، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارة والمدنية ، والعدل والرحمة ، والعلوم العقلية والكونية على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية ، التي زكاها القرآن ، وعلمها أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان ؛ فهل يمكن أن يكون  هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم ، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم؟