المسجد الأقصى, المسجد النبوي الشريف, المسجد الأموي, المسجد الحرام, مسجد قباء, مسجد قبة الصخرة, مسجد عمرو بن العاص.

منارات الهدى في الأرض

مسجد قباء

تمهيد:

ورد في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكبا وماشياً فيصلي فيه ركعتين"، وفي رواية "كان يتيه كل سبت".

روى ابن النجار في تاريخ المدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ عن أبي إمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ فأسبغ الوضوء، وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين، كان له أجر عمرة"...

قرية قباء...

وقباء هذه ضاحية من ضواحي المدينة المنورة، تقع في الجهة الجنوبية الغربية الموالية لمكة المكرمة، على طريقها المسمى طريق الهجرة، وهو الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة، واتجه صوب المدينة مهاجراً إليها وبرفقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وهي منطقة مشهورة ببساتينها ونخيلها وحدائقها الغناء، وكانت تبعد قرابة 5 كم وقد شملها البنيان فألحقها صفحة بيضاء قديمة بالمدينة المنورة حالياً...

وقد كان جمهور الأنصار من أهل المدينة (والذين بلغ عددهم قرابة خمسمائة مسلم كما تذكر ذلك بعض الروايات) قد تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر المدينة في الحرة فرحين به، مسلمين عليه وعلى صاحبه، فعدل صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل بقباء، في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكان نزوله عند كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، ومكث عنده أربعة أيام ـ وقيل بضع عشرة ليلة ـ أسس خلالها بقباء المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى وصلى فيه.

ويبدو أن هذا المسجد كان موضع صلاة المسلمين قبلَ وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء. فقد نقل السمهودي في كتابه "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" صلى الله عليه وسلم أنه قيل: "كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجداً يصلون فيه يعني هذا المسجد.

ونستطيع أن نجمل المزايا الدينية لهذا المسجد في النقاط التالية:

المسجد الأول في الإسلام

1ـ يعتبر مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام على وجه الأرض، فسواء كان الذين اختاروا موضعه ابتداء هم المهاجرون والأنصار قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم أم كان الذي اختار موضعه هو النبي صلى الله عليه وسلم قبيل دخوله المدينة المنورة لأول الهجرة ـ على المشهورـ فإن ذلك لا يغير من كونه أول مسجد بني في الإسلام، ولذلك دلالته الكبرى التي لا تنكر.

إشراف ومباشرة من قبل الرسول ( ص)

2ـ حاز مسجد قباء شرف وضع النبي صلى الله عليه وسلم لأساسه، والمشاركة الشخصية منه عليه السلام في بنائه، ومسارعة الصحابة: المهاجرون منهم والأنصار في إعماره، حتى قامت بنيته وعلا كعبه.

روى ابن زُبالة وغيره أنه كان لكلثوم بن الهدم بقباء مِرْبد (والمربد: الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس) فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجداً...

وروى يونس بن بُكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول صلى الله عليه وسلم بُدُّ من أن يجعل له مكاناً يستظل  به إذا استيقظ  ويصلي فيه، فجمع حجارة  فبنى مسجد قباء فهو أول مسجد بني.

قال السمهودي: وهو في التحقيق أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا.

وفي المعجم الكبير للطبراني عن جابر بن سمرة قال: لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليقم بعضكم فيركب الناقة " (أي ناقته التي هاجر عليها) فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث، فرجع، فقام عمر رضي الله عنه فركبها فلم تنبعث، فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" ليقم بعضكم فيركب الناقة " فقام علي رضي الله عنه فلما وضع رجله في غرزالركاب وثبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرخِ زمامها، وابنوا على مدارها، فإنها مأمورة ".

 

تفاصيل البناء الأول:

وعن الصورة المفصلة لوضع أساس المسجد روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال لأصحابه: "انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم فأتاهم فسلم عليهم، فرحبوا به. ثم قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من هذه الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة ومعه عنزة له ( وهي عصا مثل نصف الرمح لها سنان مثل سنانه) فخط قبلتهم، فأخذ حجراً فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أبابكر خذ حجراً فضعه إلى حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر، ثم التفت إلى الناس فقال: ليضع كل رجل حجره حيث أحب على ذلك الخط...

كما روى الطبراني في الكبير عن الشموس بنت النعمان قالت: نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم وأُنزل، وأسس هذا المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر (أي يقيمه ويضمه إليه لثقله) وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سُرّته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أَكْفِك فيقول: ل،ا خذ مثله... حتى أسسه ويقول إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة. قالت: فكان يقال: إنه أقوم مسجد قبلةً.

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون في بناء مسجد قباء ويرتجزون شعراً ينشطون به همهم. روى ابن شبّه أن عبد الله بن رواحة كان يقول، وهم يبنون مسجد قباء: افلح من يعالج المساجدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المساجدا. فقال عبدالله: ويقرأ القرآن قائماً وقاعدا. فقال عليه السلام: وقاعدا. فقال عبدالله: ولا يبيت الليل عنه راقدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: راقدا.

 

رجال يحبون أن يتطهروا:

3ـ امتدح الله سبحانه وتعالى هذا المسجد وأهله والقيام فيه وشهد له بأنه مسجد أسس على التقوى والإيمان لا الرياء والمفاخرة أو الإضرار. قال الله تعالى: (لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) والجمهور من المفسرين على أن المراد في الآية مسجد قباء، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم لمسجد المدينة (هو مسجدكم هذا) إذ كل منهما ـ كما يقول السمهودي ـ أسس على التقوى.

قال الشيخ أحمد زيني دحلان في السيرة النبوية: لما نزل قوله تعالى (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال:" ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به. فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة إلى الغائط إلا غسل فرجه أي بعد الاستنجاء بالأحجار ـ وفي رواية: نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فقال: هو هذا. زاد في رواية: ولا ننام الليل كله على الجنابة".

وقد سبق معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على زيارته كل سبت، وكان يحض أصحابه على قصده بعد التطهر في البيوت لأجل صلاة ركعتين فيه تعدلان أجر ومثوبة عمرة إلى البيت الحرام.

هذه لمحة عابرة عن فضل مسجد قباء ومزيته الدينية.

بناء بسيط متواضع

ونكاد نجزم بما توفر لدينا من معلومات حول ذلك على قلتها بأن بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم له كان بناء أولياً في منتهى البساطة والتواضع، إلا أنه كان من حجر، ولعله اتخذ له في قبلته سقفاً على جذوع النخل يقي المصلين حر الشمس ومطر الشتاء، كما فعل صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف في المدينة المنورة.

إلا أنه لم تكن له مئذنة ولا محراب، لأنهما لم يعرفا حينذاك بعد كما.

لم يكن فيه منبر لعدم إقامة صلاة الجمعة فيه طيلة عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان مسجده الشريف مجمعاً للمسلمين يوم الجمعة والعيد، يأتون إليه من ضواحي المدينة وأطرافها.

التجديد الأول... أيام عثمان( رضي الله عنه)

ولما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه جدد قباء، وزاد فيه وحسنه، وذلك أسوة بما فعله بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أنه لم يخرجه عن صورته البسيطة التي كان عليها في بنائه الأول.

الدور الأموي: 

وبقي الحال هكذا حتى  كانت أيام الوليد بن عبد الملك الأموي ـ الذي قام بعمارة العديد من المساجد والآثار الإسلامية، وكان مولعاً بذلك ناشطاً فيهاـ فأوعز إلي وإليه على المدينة المنورة ابن عمه عمر بن عبد العزيز الذي تولى إمارتها (87 ـ 93هـ) بأن يجدد بناء مسجد قباء وأن يعني به، فقام عمر بن عبدالعزيز بتنفيذ تلك التعليمات، فبالغ  في تنميقه وتوسعته، وهو أول من عمل له مئذنة وجعل له رحبة وأروقة حول صحن المسجد تقوم  على أعمدة حجرية. وقد جاءت زيادة الوليد في مسجد قباء من جهة القبلة.

وفي سنة 435هـ عمره الشريف الحسيني أبو يعلي أحمد بن الحسن، كما كان مسجلاً في حجر منقوش بالخط الكوفي القديم موضوع فوق محراب فيه.

ثم جرى تجديده من قبل جمال الدين الأصفهاني ـ بأني رباط العجم قرب باب جبريل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ـ  وذلك عام 555هـ

ثم جرت بعد ذلك عدة تجديدات  لمسجد عام قباء عام 671هـ وعام 733هـ وعام 840 هـ  وعام 881هـ.

وقد نقل لنا وصف مبسط عن بناء المسجد في تلك الفترة، فقد ذكر الإمام الحربي في كتابه ( مناسك الحج ) قال: حدثني أبو تربة عن سليمان عن أبيه قال: ذرع مسجد قباء ست وثلاثون ذراعاً وشبر (18) مترا تقريباً في مثله، وعرضه وطوله سواء، وهو مربع. وطول جداره في السماء تسع عشرة ذراعاً (9 أمتار)

وطول رحبته التي في جوفه (أي صحن المسجد) خمسون ذراعاً (25 مترا) وعرضها وعشرون ذراعاً (13مترا). وطول منارة المسجد حينذاك خمسون ذراعاً (25) مترا، وعرضها تسعة أذرع وشبر (4.5 متر) في تسع أذرع. وفيه ثلاثة أبواب. وفيه تسع وثلاثون أسطوانة (عمودا)...

ويبدو أن السلطان قايتباي الذي جدد بناء المسجد النبوي، قد اعتنى كذلك عناية خاصة بمسجد قباء، فجدد بناءه، وأضاف إليه محراباً جديداً من الرخام.

وقد بقيت صورة المسجد على ما بناه قايتباي، رغم التجديدات المتكررة التي كانت بعده، ومنها عمارة حدثت في عهد السلطان محمود الثاني سنة 1245هـ وابنه السلطان عبدالمجيد.

وعندما أهدى السلطان العثماني مراد للمسجد النبوي منبراً فخماً عام 998هـ  نقل  المنبر القديم الذي صنع في تجديد قايتباي من المسجد النبوي ووضع في مسجد قباء... ويبدو أن السلطان محمود الثاني قد بنى لمسجد قباء منارة بديعة الحسن أكملت في أيام ولده عبدالمجيد

كما ذكر أن لأروقته  وهي ستة أروقة قبايا، وفي الرواقتين اللذين بمؤخره غرفة لوضع أمتعة المسجد وفرشه.

وداخل صحن مسجد قباء كانت ثمة قبة يقال: إن بها مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.

كما كان في ذلك الصحن بئر ماء عذب.

تمهيد الطريق:

وقد كان طريق مسجد قباء طريقاً وعراً ضيقاً معوجاً، كما يقول الاستاذ عبدالقدوس الأنصاري في كتابه " آثار المدينة المنورة " وعلى جانبيه نخل يضايق بسعفه المارين، إلى أن شق فخري باشا عام 1336هـ طريقا مستقيماً واسعاً إلى مسجد قباء، وقد جدد هذا الطريق ثانية عام 1351هـ وكيل أمير المدينة الأمير عبدالعزيز إبراهيم، بعد ان أشترى ست عشرة قطعة من الأراضي من ماله، وجعلها وقفاً لله تعالى، وأزال الحواجز، وبنى بجانبها أعلاماً لتحديد الطريق وحفظهاحتى لاتندرس أو يطغى عليها أحد

         

الجهود السعودية المبذولة والمميزة:

وفي عام 1388 في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله جدد بناء مسجد قباء تجديداً قيماً وبخاصة في جدرانه الخارجية، وزيد فيه رواق من ناحيته الشمالية الموالية للمدينة المنورة مع مدخل خاص للنساء، وأدخلت المئذنةفي نطاق المسجد بعدأن كانتمنفصلة عنه في الركن الشمالي الغربي ، وقد كلف ذلك التجديد قرابة 800 ألف ريال، فأصبح بعد ذلك مربع الشكل، طوله وعرضه 40مترا.

هذا وقد تم إعادة بناء مسجد قباء أخيراً عام 1410هـ في عهد الملك فهد بن عبد العزيز جزاه الله خيرا وروعي في البناء الجديد ان يكون قريبا من تصميمه القديم فبني على شكل رواق جنوبي وآخر شمالي تفصل بينهما ساحة مكشوفة، ويتصل الرواقان شرقا وغربا برواقين طويلين . وابقي على المنبر والمحراب والمعالم القديمة بعد تجديدها .

وفي هذه الإعادة الأخيرة للبناء ضوعفت مساحة مسجد قباء خمسة أضعاف المساحة السبقة  ليصبح (6000م2) تستوعب (9000)مصل في وقت واحد ، كما ألحقت به ساحات خارجية لاتقل عن (4100م2) وشرفة لصلاة النساء مساحتها(750م2)تتسع ل(1000)مصلية ، وفوق بنائه الضخم ترتفع ست قباب كبيرة تحف بها قباب صغيرة عددها (56)قبة. بينما تشمخ في أركانه الأربع منارات أربع متطابقة مع بعض طول كا منها (47)مترا ، وتحت المنارتين من الناحية الشمالية سردابان ... وفي داخل بيت الصلاة الضخم استخدم الرخام للأرضية والحوائط حتى أفريز الجدار ، كما فرشت حميع القبب والعمدان بالرخام حتى الرواسخ المتدلية من الأقواس ، وكذلك زينت القباب وزخرفت بمواد من الجبس على شكل قطع وشرائح.

وأضيف للمسجد خزان ماء أرضي ضخم سعيه(1000م3)من الماء مع خزان علوي يسع (270م3) ، وأضيف كذلك نظام تكييف للهواء.

ووسط المسجد مكشوف تحيط به أروقة واسعة من الجهات الثلاث ، وله مداخل واسعة تؤدي إليها.
وبذلك يغدو مسجد قباء من المساجد الضخمة المشهودة المتميزة بمتانتها وسعتها وجمالها، ليتبوأ ما يستحق من مكانة دينية في سلك درر المساجد، ويرتفع إلى المستوى اللائق به كأول مسجد بني في الإسلام.